أحسدُ المسمارَ لأن هناك خشباً يضمُّه ويحميه في مجموعة (خفيفٌ ومائلٌ كَنَيسَان) لأحمد الملا

لا زوارَ لهذا المساءْ
لا ندماءَ يهزؤون من كآبةِ النهارْ
هكذا أدخلُ وحيداً
إمّحتِ الأصواتُ
لا وقعَ لخطاهُ
لا صريرَ
لاجرسَ لاأوتارَ
لاكلام

هكذا يختم الشاعر أحمد الملا مجموعته (خفيف ومائل كنيسان) معلناً الإفلاس العاطفي والفكري والاجتماعي والإنساني للواقع.
ويستعير جملةَ محمد الماغوط التالية ليرسم صورة الفرد المعاصر وما آلى إليه: (أحسدُ المسمارَ لأن هناك خشباً يضمُّه ويحميه).
ويوسّع الشاعر هذه الحالة التراجيدية بعمق وجداني يجسّدهُ على النحو التالي:
عما قليلٍ
يدخلُ عاملُ الغرفِ
يُرتّبُ السريرَ بمهارةٍ سريعةٍ
ينفضُ الهواءَ
والملاءاتِ والنهرَ
لنازلٍ ذي حقيبة

أمام هذا الخراب الجماعي الذي يشمل الفرد والمجتمع لا يجد الشاعر الحلَّ في الإصلاح ، وإنما في إعادة تكوين الأشياء من جديد بعد إتلافها أو موتها.
وهو يستعير لذلك أسطورةَ فينيق لإسقاطها على الرؤيا التي يسعى لتجيسدها.
ففينيق لا يعود إلى الحياة إلا بعـد احتراقه:
ما لكِ والضوءُ الذي يُفتِّقُ النُّدوبَ
دعـي العَتْمَةُ تَمحو
لترتاحَ الأحجارُ
أيتها المصابيحُ
يـا غريزةَ الليل

ويؤكد ذلك في مكان آخر:
أَسْمِعِي المرايا
تكسّرَها
كي تُطالعنا بالوداعة

ويعتمد الكاتب - إلى جانب ذلك - على ميثولوجيا التكوين المتوسطية.
فالطين أساس الحياة، وبه يبدأ الخلق ومنه تبدأ الحياة خطواتها الأولى:
ليست الريحُ من يدفعُ الأغصانَ
أو يوقظُ الأصفرَ في سُباته
ولا الصدى من نبَّهَ الريشَ
وترَكَ الجسدَ عارياً من الطيران
ربما الطينُ وشُبهَـتُهُ
التي دحرجتْنا في السهول

تتفرّد المجموعة بعدد من الميزات فيما يلي نذكر أبرزها:

أولاً- تعتمد اللغة على الانزياح . ففي المجموعة لا حدود ثابتة للغة ولاقوانين تضبط دلالات المفردات، ولهذا لا أهمية للدلالة المعجمية للمفردة.
فهي تتحرك في فضاء غير محدود.
وبناءً على ذلك لم يعد للأشياء سماتها الثابتة.

فالنوافذ تُطلق، والجدران تشفُّ، والأغصان تنحني:
تشفّ أحلامَها على ساعدي
بعيداً أطلقتْ نوافذَها
فأحاطتني
ألُـمُّها بعينيَّ ولا أجرؤ إغلاقَ رغباتي
أقفُ عند ضوءِ الشارعِ
أُنكّسُ رأسي قبلَ يقظةِ الأخضر
وأقبّلُ رائحتَها
معها تطفو الطفولةُ تكشفُ نوافذي

ثانياً- وتعتمد الصورة الفنية في المجموعة على الصورة اللوحة، من ذلك اللوحات التالية التي يتفَنَّنُ الشاعر برسمها:
(ها إني أهبط مثقلاً / بمطر الليل 14)، (هبني هاويةً / أو نافذةً يقودُني نارُها / تركتُ هيئتي هناكَ / على مقعدٍ / أطفأهُ المطر 15).
(شمعةٌ / زَرعتِ الظـلالَ / وتركتِ الأحـلامَ / ناعسةً / بينما الأرقُ / طافـحٌ / يتدلّى 28).
(أيقظني أيها الوردُ / كَلَلْتُ من الصَّحْوِ 79) .
(ماذا لو أن يدي صخرةٌ / والنهرُ يجرِفُكِ / ماذا لو اقتحمتُ مرآةَ خِزانتِكِ / بدراجةٍ ناريّة 115).

يُلاحـظ مـن النصوص السابقة اعتماد الكاتب على غزارة الصور الجزئية، والعلاقات الرمزية مما رفع من شعرية النصوص إلى أقصى درجاتها.

ثالثاً- لقد جعل الشاعر كل الأشياء قابلة للحركة، مرنةً تتحدّث وتتفاوض وتمشي وتصفّق، وفتحَ كل الحدود بينها، فبادل بين سماتها ومنحها الحركة والحياة ووسّع من أبعادها، وهو - ضمن هذا الإطار - يؤنسن الأشياء:
يتقشّرُ الجِبْسُ
ُسقِطُ أصفرَهُ طويلاً وحنوناً
الغبارُ لن ينسى وظيفتَهُ
العَتْمَةُ تبيتُ تتربّصُ الغيابَ على مهلٍ
الآنَ ينصفقُ الباب

ومن ذلك أيضاً:
العروقُ تخطُّ أنفاسَها في الهواء جدائلَ
علّقتها رَعشةُ الحنين

رابعاً- التداخل والتبادل بين الصفات الإنسانية وصفات عناصر الطبيعة مما يستثير المخيلة ويوسّع من أفق الصورة ويمنحها الحركة والتأثير ويعمّق الحالة فيها.

فهناك تناغم كبير بين الإنسان والطبيعة من حيث تبادل المهام.
وأحياناً، بل غالباً مايجد المتلقي صعوبةً في التمييز بين السمات الإنسانية والسمات الخاصة بعناصر الطبيعة مما يفرض عليه شكلاً خاصّاّ من التلقي، ولا يمكن له، أعني المتلقي - بناء على هذا - أن يظل هامشياً أو مجرد قارئ يمرُّ بنصوص المجموعة مروراً فحسب:
الجدارُ شفَّ عما خلْفَهُ
ثقبُ انتظارٍ
بَحْلَقةٌ، واتكاءَةٌ تلاشَتْ في الحجر
مَن مضى؟
فيما الأحجارُ حائرةٌ
في مشارفِ النِّسيان
ربما لمحةٌ
أو صوتُ عابرٍ
أو خيالُ شبيهٍ
ينفخُ في الصّدْرِ
يأخذُ اليدَ
ويتركُ فجوةً حارّةً في الجدارْ

خامساً- الصورة في المجموعة غير ناجزة تعتمد على الإيحاء والاقتصاد الشديد في اللغة وعدم الاستغراق في التفاصيل الجزئية التي أُغرم بها الشعر الجديد.

وكل ذلك يترك للمتلقي مساحة كبيرة فارغة تفرض عليه المشاركة في بناء الحالة المستهدَفة.
بهذا يستطيع الشعرُ تعميم أدواته، بل قد لايستطيع المتلقي أن يميّز مَن الذي صاغ الحالة: الشاعر أم هو؟

ومن ميزات هذا النوع من الصور أنه يمنح المتلقي قراءاتٍ متعددةً للنص.
ويمكن تعميم هذه القيمة على جميع نصوص المجموعة.

سادساً- تكثيف الأشياء وضغطها، وبخاصة الزمن؛ ففي نص (فجأة) هناك تكثيف شديد للزمن، يسانده عمقٌ في السرد والإحساس، وتجسيد مميـز للموقف التراجيدي.
لقد ربّاهُم، فكَـبُرا ثم طارَا، يقول:
ذاتَ مساءٍ
صُدْفةً مسَّا منتفُ العمر
وقعتْ حمامتانِ في شُرفةٍ
فجفَّ الغسيلُ
وفجأةً
طفلانِ يَندهِشَانِ في ثيابِنا
لم يعودا
تركا الشرفةَ
جاثمةً في الجدار
وطارا

سابعاً- إلى جانب ما تقدم سعت المجموعة - كنوع من التنويع في الشكل الجمالي - إلى أسطرة بعض المواقف مما منحَ الصورةَ أبعاداً سريالية تتخطى الزمان والمكان، وزادَ من قوة الإيحاء فيها، وأعني بالأسطرة مقاربة الشاعر للمناخ الأسطوري دون الاعتماد على الرمز الأسطوري أو الحدث الأسطوري.

من ذلك قوله:
الهواء يهبِطُ مـن مراوحِ السقفِ
دخانٌ مغموسٌ بضحكاتٍ
ما إن تمتصُّني ذاكرةُ الخشبِ
ويمتلئ المكانُ بما يشبهُ خمشَ القطط
حتى ينفرطَ الصدرُ
وتهوي أذرعُ المراوحِ
ناشبةً في الرأسِ

ثامناً-  على الرغم من التصاق النصوص بالفرد لكنها كانت أحياناً تتناول بعض النماذج الإنسانية من خلال تجسيد جوانب من تفاصيل حياتها اليومية؛ لتؤكد انتماءها إلى الواقع.

يقول عن الإسكافي:
شفتان محروثتان بغامقِ الحديد
وعينان غاصتا في رقْعِ الخطى
أيُّ مرارةٍ حزّت جبينَكَ
حين سهَمَ جِلْدُكَ للبعيد، وانظر كذلك   قصيدة (أبي) ص105.

خلاصة القول:
لقـد كانت القبيلة العربية القديمة تحتفل إذا ولد فيها شاعر.
أقول: من حق الشاعر أحمد الملا على النقاد أن يحتفلوا به، فهو شاعر جدير بالقراءة الجادة.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال