دراسة المستوى الدلالي في قصيدة المساء لمطران خليل مطران.. قراءة العنوان والمحاور الدلالية وعلاقاتها

إن مستويات النص السابقة، الإيقاعي، المعجمي، التركيبي تتقاطع وتتداخل لتشكيل بنية النص الكبرى، أو الخلفية للصورة الكليّة العميقة، وعلى القراءة النافذة أن تسبر تقاطعات النص، وتكشف، وتُنير ماحاول الباثّ أن يحجبه في الزوايا المخفية من بنية النص.
ولذلك فإننا سنحاول أن نتلمّس دلالة النص الكبرى في قراءة العنوان والمحاور الدلالية وعلاقاتها.

1- العنوان:
كانت القصيدة إلى أواخر القرن الماضي تُسمّى عادة بحرف الروي، فنقول همزية البارودي أو بائيته أو تائيته أو يائيته، وما يميّز قصيدة من أخرى أنها قيلت في مديح فلان أو رثاء فلان، أو أي مناسبة أخرى، وهذا يعني أنّ مايميّزها هو خارج على بنيتها، لكنّ الأمر مختلف في هذا النص الذي يعود زمن نظمه إلى بداية هذا القرن (1902م)، فقد أطلق عليه الشاعر أو سماه أو عنونه باسم "المساء"، فهل جاءت هذه التسمية اعتباطية، أو أنّ اختيار الشاعر للعنوان كان متطابقاً مع النّص؟...

يمدّنا العنوان بزاد ثمين لتفكيك النص وقراءته، فهو المفتاح الأهمّ بين مفاتيح الخطاب الشعري، وهو المحور الذي يحدّد هويّة النّص، وتدور حوله الدلالات، وتتعالق به، وهو بمكانة الرأس من الجسد، والعنوان في أيّ نصّ لا يأتي مجانيّاً أو اعتباطياً، فهو ليس كالاسم في الإنسان، لأن الإنسان يسمى بعد ولادته مباشرة، وربّما لا يكون الاسم دالاً عليه كلّ الدلالة، فقد نسمي مولوداً ذكراً فريداً أو ذكياً أو كاملاً أو صالحاً أو حسناً، ولكن النتيجة قد تخيّب ظنّنا وآمالنا، وقد تكون أن فريداً لايكون فريداً، وأن ذكياً لايكون ذكيّاً، وأن صالحاً غير صالح، وكاملاً غير كامل وحسناً غير حسن، فالاسم، هنا، اعتباطي احتمالي، ولكنّ الأمر في النصوص الأدبية مختلف، فالنّص يسمى بعد إنتاجه إنتاجاً نهائياً وبعد أن يصبح قابلاً للاستهلاك، فعلى الاسم أن يكون صالحاً للمسمّى دالاً عليه، ولذلك فإنّ العنوان -هنا- بمكانة الرأس من الجسد لا بمكانة الاسم من المسمّى المولود، والعلاقة بين العنوان والنص رحمية، ومادام للعنوان في النص الأدبي هذه المكانة فإن ماتحت العنوان يكون دالاً عليه، ويكون الرأس (العنوان) متصلاً بالجسد بقنوات وشرايين.

وإذا عدنا إلى العنوان "المساء" وجدناه محدّداً بـ "ال" التعريف، وهذا يدلّ إلى أنّ الشاعر لايريد أيّ مساء، وإنما يقصد مساءً خاصّاً بيوم محدد أو بشخص محدّد، ولكنّ السياق لايشير إلى يوم محدّد في تاريخ محدّد، وإنما عرّفه الشاعر هذا التعريف ليظلّ المساء المحدّد قريباً من اللاّتحديد، أو هو ترك التحديد للسياق، ويعني التعريف أنّ ماجاء في النص هو كلّ ماتعرفه الذات الناطقة، ولذلك فإنّ الحركة السوداوية أخذت منحىً يقينياً من خلال السرد والإحساسات، فهذه الذات تدرك سلفاً النتيجة التي ستؤول إليها، ولذلك فإنّها تتكلّم، وفي كلامها معرفة ونبوءة.

والمساء -لغة- وقت المساء، ولكنّ السياق يبيّن أن هذا المعنى غير مقصود لذاته، ويبيّن الاتجاه العام في دلالات النص الصراع بين عاطفتين تتنازعان مخيّلة الشاعر ونسيج النص: الألم بسبب المرض، والألم بسبب هجران الحبيبة، وتجري الدلالتان في تيارين يتشابكان حيناً ويتداخلان حيناً إلى أن تهيمن عاطفة ألم الهجران على العاطفة الأولى، ثمّ تخفيها إخفاءً تامّاً من دالاّت النّص، ليتحوّل بعد ذلك المناخ إلى رثاء شخصي، وإذا "ال" التعريف في "المساء" تنتقل من البداية إلى النهاية، لتتحوّل إلى ياء المتكلّم "مسائي" في البيت الأخير، فإذا الشاعر يحدّد الدلالة المقصودة، ليفتح أمامنا الآفاق البعيدة على ماتبثّه هذه اللفظة الانزياحية من مجالات، كالمصير، والنهاية، والموت الذاتي والإبداعي.

2- المحاور الدلالية وعلاقاتها:
تتشكّل القصيدة من ستة مقاطع، ويتشكّل كلّ مقطع من مجموعة من الدوال والمتتاليات المتلاحقة ذات الدلالات المتعددة التي تتنافر وتتباعد، لتتقارب فيما بعد، وتؤدي وظيفة واحدة، فالمقطع الثالث -مثلاً- يتكوّن من ثمانية أبيات، يبدؤها الشاعر بثنائية من الدلالات المتقابلة.

فالشاعر يطلق على حبيبته صفات محبّبة (كوكب- مورد- زهرة)، وهي صفات تتضمّن في ذاتها أساسيات الحياة، فالكوكب مصدر النور، والنور مصدر المعرفة والحياة والجمال، وليست الشمس سوى كوكب من الكواكب، ولاتكون الحياة بلا شمس، والمورد المنبع وأصل الماء، والماء أساسي للحياة، ومن دونه يتعذّر العيش، إضافة إلى أن الماء مصدر جمالي آخر، وهو مصدر لا غنى عنه للحياة في الإنسان والحيوان والنبات، والزهرة مصدر آخر من مصادر الجمال والرقة، والعطاء، وهي مصدر من مصادر السعادة التي تبثّها الزهرة في عيون من يستنشق عبيرها أو يستمتع بجمال طلعتها، والحبيبة تجمع هذه الصفات معاً، وتستبطنها.

ولكن الشاعر يصف في الوقت ذاته أنوار هذا الكوكب بالضلالية درباً وعقلاً، ويصف ماء المورد بالسّراب الخادع، ويصف عبير الزهرة بالسمّ الزعاف، فالمقطع يقدّم لمتلقّيه هذه الصفات المحبّبة، ثمّ ينفيها، يرسمها ويمحوها، يبيّن أنّ العاشق لايعيش أيامه السعيدة دون أن يعكّر صفوها الزمن، ويكشف أن الوصول إلى السعادة المطلقة ضرب من الوهم.

فالعشق مصدر من مصادر السعادة والحبّ والتشوّق إلى الجمال، ولكنه يحمل في داخله الشقاء والدموع والأحزان، فكل شيء يحمل نقيضه في ذاته، فالحياة في الموت، والموت في الحياة، والغدر في الوفاء، وليس هذا القدر من الجمال الساطع الذي تتمتّع به الحبيبة سوى صورة عن الغدر الكامن في أعماقها، فهي أنثى مراوغة مخادعة غادرة، همّها أن تهيمن على من يحبّها، فإذا استمالت قلبه وتملّكت منه لدغته، وأفرغت في قلبه سمّها الزعاف، فأودت به إلى التهلكة، وهذا يفضي إلى أنّ جمالها شرير، وأن حرباً تقوم بين عالمي العاشق المسكين المغرور المخدوع السّاذج الوفي وهذه الأنثى المتربصة الخادعة الشريرة، وشتان مابين العالمين، وإذا كانت النتائج تُقرأ من المقدمات فإن نهاية هذا العاشق واضحة المعالم جليّة، والدوال في الأبيات الثلاثة الأولى من هذا المقطع توحي بذلك، فالوفاء من جانب هذه الأنثى معدوم، والدوال هي: "يهديه طالع ضلّة ورياء- أن يهلكوا بظماء- تُميت ناشقها بلا إرعاء)، وهذا يومئ أيضاً إلى أنّ الشاعر يتهم الحبيبة صراحة وضمناً بأنها غير وفية، وكأنّه يحذّر الآخرين من مغبّة أن يكونوا عشاقها، فقلبها لم يخفق مرّة واحدة بالحبّ، ولذلك فإنه يثور عليها، ويواجهها بالأدلة مواجهة صريحة.

ويظنّ القارئ أن الشاعر اكتشف ثغرة في شخصية الحبيبة، وبناء على ذلك فإنه يتوقّع منه أن ينقلب على أوضاعه ويتغيّر، كأن يعاقبها، أو يثأر لنفسه منها، أو يقابلها بالخيانة والغدر، أو يتخلّى -على الأقل- عن هذه الحبيبة المخادعة الغادرة، ولكن ثبات العاشق على أوضاعه القديمة لايفاجئ القارئ كلّ المفاجأة في بقيّة المقطع، فهو يقدّم الدوال التي تؤكّد أنه سلّم أمره وقلبه وحياته لسلطان الحبّ والحبيبة، كما تسلّم الذبيحة نفسها لذابحها، والحبيبة محكّمة تفعل ماتشاء دون رغبة منه في الاحتجاج، أو الرفض، فهي السيّدة، وهو العبد المطيع، بل هو يستغفرها على مابدر منه من اتهامات أو دفاع عن النفس، ويسمّى ماجاء في اتهاماته وثورته السالفة عتاباً، ولايكون العتاب إلاّ بين المحبّين، وهو انجذاب وتعالق وإعادة اتصال، لا انفصال وقطيعة، ثمّ إنه يراجع نفسه، ومَنْ هو ليعاتب سلطان الحبّ والحبيبة؟

وتبرز -هنا- صورة المرأة الأسطورية المتحكّمة التي لا رادّ لإرادتها وسطوتها وسلطانها، فهي الزهرة والكوكب والمورد، ولاحضور له من دونها، وهذه الصورة هيمنت على الشعر الرومانسي الصافي، ثم من هو إزاء هذا الجمال المطلق المسلّط والفتنة الفتاكة؟ ولذلك فإنه لايكتفي بمراجعة نفسه، وإنّما هو يُخطّئها ويدين أقواله السالفة، فتنعكس الآية، فبعد أن كان هو القاضي في الأبيات الأولى والحبيبة متهمة، غدا في الأبيات الأخيرة من المقطع قاضي نفسه، وإذا هو ينشطر إلى نصفين: نصفه يحاكم نصفه الآخر، ويعنّفه، ويخطئه، ويجازيه على تجرئه إزاء سيادة الجمال المطلق، فينتقل الصراع بين العاشق ومن يحبّ إلى الصراع الداخلي بين العاشق ونفسه، وتتبرأ الحبيبة من كلّ ماوُصفت به في بعض الأبيات، ولا يشكّ العاشق لحظة في أنّ هذه الأفكار والتصوّرات التي وُضعت بها الحبيبة كان ينبغي ألا تكون، فهي التي أساءت إلى جوهر الحبّ نفسه، ولذلك فإن منزلة الحبيبة ترتفع فجأة من متهمة خائنة شريرة إلى منزلة المرأة الأسطورية الملاك والمثال، فيعتذر منها الشاعر بلفظة "حاشاك"، وهي لفظة تحمل معاني الحبّ والعبادة والتقديس، وتجعل هذه الأنثى فوق الشبهات، وتستثنيها مما جاء من أحكام وصفات طائشة، ولذلك فإنّه يؤنب نفسه ويعرّضها للشقاء، والشقاء مكتوب على المحبيّن والبشرية.

وهذه -كما يرى الشاعر- سُنّة الحياة، وهو يواجه نفسه بهذه الحقيقة الرومانسية: إذا شئت ألاَّ تتحمّل الشقاء فلماذا أنت عاشق متيم إذاً؟ وكأن الحبّ والشقاء في دلالات هذا المقطع وجهان لعملة واحدة، وهما متلازمان، ولذلك فإنّ الشاعر العاشق يتقبّل بعد ذلك نتائج الحبّ، ويندفع إليه بإحساسات رومانسية وصوفية صافية، يندفع وراء هذا الكوكب وإن كان يدرك سلفاً أنّه يضلّه، ولكنها ضلالة ممتعة إذا كانت أنوار تلك الطلعة الزهراء تؤنس مقلتيه لفترة ما، وإن كان أيضاً هذا الإيناس وهماً نفسياً، ويندفع أيضاً وراء ذلك السّراب، وهو يدرك أنه سراب لا يقود إلاَّ إلى مزيد من العطش والتهلكة، ومع ذلك فإنه يوهم نفسه برشفة من وهم ذلك السراب، وهو يندفع وراء تلك الزهرة ليتنشّق عبيرها القاتل، وليكون فيما تبقّى له من العمر عبداً طائعاً، يندرج اسمه بين شهداء الحبّ وعابدي الجمال.

تشكّل هذه الدوال ذات الدلالات المركبة المتناقضة المتواجهة في ثنائيات بين محوري الحب والكره/ الوفاء والغدر/ السيادة والعبودية/ الظلم والعدل/ ظاهر الحبيبة وباطنها/ الموت والحياة.. تشكّل هذه الدوال معظم دلالات هذا النص بمقاطعه.

وفي النص الشعري شخصيتان: شخصية تتكلّم، وهي تسرد وتكشف وتروي وترى وتتنبّأ، وهي التي تطرح الأسئلة وتجيب عنها، وشخصية صامتة غائبة، ولكنها متكلّمة في غيابها، حاضرة في كلام الآخر، وهي التي تهيمن على مسرح الذاكرة ومخيّلة الشخصية التي تتكلم، فهي الموضوع الذي تدور حول مفاصله بنية القصيدة، وإذا تركنا الشخصية الأولى الناطقة، واستعرضنا صفات الشخصية الصامتة وجدناها أنثى تتميّز بالانشطار والانقسام إلى عدة إناث، وتتلوّن بعدة ألوان وصفات، فهي الحبيبة، وهي الغريبة، هي العاشقة، وهي القاتلة، هي القريبة، وهي البعيدة، هي الإنسانة، ولكنّ فيها عنصراً أسطورياً، لم تخلُ صفاتها من صفات إيجابية، فهي على الأقل كانت حبيبة الشاعر.

ولكنّ الصفات السلبية تطغى على سواها، فهي تسبّب لعاشقها الوفي الداء في المقطع الأول بهجرانها، وهي الأقوى والمهيمن، مع أن اللّه سبحانه خلقها ضعيفة وأنيسة لوحدة الرجل الأول، ومع ذلك فهي صارت بضعفها قوية، وبخضوعها سيّدة، وبأُنسِها موحشة، وقد وقعت تلك الأفعال على الشاعر الذي يعاني سكرات الموت من جرّائها ومن دون أن تسال عنه، وكأنها لم تأتِ ذنباً، أو لم تقترف إثماً بحقّ الحبيب، مع أنها هي التي سلبته كل شيء: عمره وعبقريته في المقطع الثاني، وهي تقوده، وتسيّره، وتدفعه إلى حيث تشاء، بل تقوده إلى حتفه بإرادته، كما يستشفّ من المقطع الثالث، ومع ذلك فهو لايمتلك حقّ الدفاع عن نفسه، ولايملك من أمره شيئاً، وهو يظلّ وحيداً إلاّ من ذكريات حبّه في المقطع الرابع، وتستطيع هذه الذكريات القاسية أن تحلّ محلّ الحبيبة في أثناء غيابها، فإذا كان حضورها عاديّاً، فإنّ حضورها طاغٍ في غيابها، لأن أحزانه تطبق على صدره ساعة الإمساء، وتدعه في المقطع الخامس إزاء غروبه النفسي، وهو إزاء غروبه الشخصي في المقطع الأخير، ليكون مساؤه هو مساء العمر الذي انتهى.

ويتساءل القارئ حول طبيعة هذه الأنثى: أهي أنثى عادية أو أنثى فوق عادية؟ ففي النص غير صفة من صفاتها، هي الحبيبة، ولكنها غير وفية، هي خائنة غادرة، ولكن صورتها تظلّ أقرب إلى صورة المرأة المثال، هي متهمة، ولكنها بعيدة عن أن تمثل تحت سيطرة قاضيها الشاعر، إنها أنثى الفعل والوجود في النص، وهي التي تسبّب بؤس الشاعر وتجلب له الأحزان، وهي التي تتحوّل من حال إلى حال ومن صفة إلى أخرى بين المقاطع، ولذلك فإنها شخصية فاعلة، غنية.

أما شخصية الشاعر فهي منفعلة ثابتة، لاتتغيّر، ولاتتحوّل بالأحداث؛ فالوفاء يلوّن شخصية الذات الناطقة بألوانه المختلفة، ويجعلها واحدة، ويلوّن التحوّل الشخصية الغائبة المتكلّم عنها بألوانه المختلفة، ويجعلها متعدّدة، فالشاعر أسير الحب ورهين الجمال، تقوده عواطفه، ويُسيّره هواه، وهذا ماتدلّ عليه النداءات في المقطع الثالث، فهي نداءات توسّلية داخلية أكثر منها نداءات خارجية، هي نداءات من أعماق اللاّشعور، والنداء لايكون إلاّ التماساً لحاجة، ولا يصدر إلاّ عن محتاج إلى مساعدة، وهذا يعني أن الذات المتكلمة تحتاج إلى إغاثة الذات الغائبة، ولذلك فإن الأولى ترفع صوتها بالنداء اليائس التماساً للراحة ورغبة في السعادة، ولكن هيهات ماتتطلّع إليه، فإن الذات الغائبة تتلهّى وتتسلّى بعذابات الذات المتكلمة المستغيثة، وتقهقه منتصرة على ضحيتها، وهنا تبرز سادية هذه الأنثى، وتتجلّى هذه السادية من خلال ذاكرة الذات الناطقة التي استحضرت إلى خشبتها صورة هذه الأنثى.

وإذا توقفنا عند الأسئلة التي تطرحها الذات المتكلّمة فهي قليلة بالقياس إلى الجمل الإخبارية، مع أن النص حافل بالنداء وأساليب المدح والتعجب وسوى ذلك، وتتركّز الأسئلة في المقطعين الرابع والخامس، وهي أسئلة لاتتطلّب أجوبة، لأن الجواب كامن في السؤال نفسه، أو هو في السياق، حتى إنّ السياق يمثّل بجمله الإخبارية والإنشائية سؤالاً واحداً عريضاً: لماذا تُقدم هذه الأنثى الحبيبة على ما أقدمت عليه؟ ولماذا يكون الشاعر ضحية هذا الحبّ مع أنه الوفي المخلص المطيع؟..

إن التقريرية السردية التي تطالعنا في المقاطع، وبخاصة في المقطعين الأول والثاني، لاتخلو من تساؤل، أو هي تستحثّ القارئ على التساؤل بينه وبين نفسه، فالقلق الذي ينتاب الشاعر ينتقل إلى المتلقي، لأنّ الحالات الإنسانية واحدة، والمناخ الشعري يُخيّم على الباث والقارئ معاً في الإنتاج الأدبي.

إنّ هذه العلاقات بما تكتنهه من بؤر دلالية تشكّل الفاعلية التي تدفع حركة النص إلى النهاية، فالدلالة الصريحة يؤدّيها سطح النص أو الشكل المحسوس المرئي منه والمستوى المباشر، وهو المعنى القريب، ومن ذلك السرد الذي تقوم به الذات المتكلمة، وهي تصف ما فعلته الحبيبة وما ارتكبته من أخطاء بحقّ الحبيب.

أما الدلالة الضمنية فيؤدّيها داخل النص وعمقه والمستوى العلائقي المنتج للحركة الثاوية فيما وراء اللغة المحسوسة، وتتجلّى من خلال الحركة النصية العلائقية، وهذا ما يُطلب إظهاره بالقراءة التأويلية.

لابدّ، للوصول إلى حركة العلاقات الداخلية، من الإمساك أولاً بخيط الدلالة السطحية للوصول إلى ما تحتها، أو للحفر تحت هذه الدلالة للبحث عن النصوص الغائبة المتخفية فيما يريد الشاعر قوله، ولابدّ من معرفة البؤر الدلالية التي يتضمنّها النص:

- البؤرة الأولى:
تعاني الذات المتكلمة الغربة والبعد عن الحبيبة (المقطعان الثاني والرابع).

- البؤرة الثانية:
الذات الغائبة ظالمة حاقدة سادية، ولكنّ الذات المتكلّمة مستسلمة لطغيان هذه الذات، مقتنعة بمصيرها، مازوخية (المقطع الثالث).

- البؤرة الثالثة:
لا تستطيع الذات المتكلمة العيش من دون الذات الغائبة، فالحياة على هذه الحال متعذّرة، والذات المتكلّمة مرتبطة بوجودها بذات الشمس التي تدلّ من جهة خفيّة إلى الذات الغائبة، فإذا غابت الشمس غاب معها عمر الشاعر، وكان مساؤه، وكأن ذلك يتعلّق بالإرث الأسطوري، ويُعيد على أسماعنا أسطورة لقمان المعمّر وقضيته مع النسر لبد، وهذا ما نجده في المناجاة الأخيرة، في المقطعين الخامس والسادس، حتى يتحوّل المقطعان المذكوران من النجوى إلى وداع الحبيبة والحياة والعالم معاً.

هذه هي الدلالة المهيمنة على سياق القصيدة، وهذا ما تلمّسناه في وحدات دلالية تشكّل مناخاً من تأزّم الذات المتكلّمة وانسحاقها تحت وطأة الحبّ والهزيمة إزاء غياب الذات الأخرى ظاهرياً وحضورها بقوّة فعليّاً، وفقدان التوازن  العام في الحياة.

وهكذا تتجلّى، في المحاور الدلالية السابقة وفي العلاقات الداخلية التي تتواشجها، حركة النص الهابطة من الداء إلى الهجران إلى الموت.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال