"الضفادع" أو"صراع التراجيديات" في المسرح.. خلق شروط جديدة للتلقي دون تغييب التفكير في شروط إنتاج وتلقي نوع جاد هو التراجيديا التي كرست قيما أخلاقية وسياسية محددة في المجتمع

تعد مسرحية "الضفادع" لأرسطوفان عملا ميتامسرحيا  رائدا بوّأ  صاحبه مكانة متميزة في تاريخ الكتابة الدرامية الغربية.

وقد تظافرت عوامل مختلفة لإبراز هذه الريادة على رأسها الخصائص المميزة لشخصية الكاتب نفسه التي نراها هنا مفتاحا أساسيا لفهم بنية الميتامسرح ووظيفته في هذه المسرحية.

في هذا السياق يؤكد ميشال كورفان  Michel Corvin  أن "مكانة أرسطوفان (450/388 ق.م) في تاريخ الكوميديا فريدة من نوعها: إنه، في آن واحد، المؤلف الكوميدي الكبير الأول في العالم الغربي، بالإضافة إلى كونه يجمع في شخصه خصائص وتوجهات لا يمكن أن نجدها مجتمعة أبدا في رجل واحد: فهو يتفاعل مع الراهن الاجتماعي والأدبي والسياسي الذي له موقف حاسم منه يجسده عبر الهجاء والمحاكاة الساخرة، كما أنه بمثابة الممثل للجنس الأكثر شعبية بهزلية إبداعاته وفحش لغته وألعابه المسرحية، بالإضافة  إلى أنه شاعر أيضا بغنائية المقاطع المؤداة من لدن الجوقة وبالخيال الشفوي الذي لا ينضب، وأخيرا هو رجل فرجة انطلاقا من كتابته نفسها، بالكيفية التي يوظف بها الرمز المستعمل والإستعارة المتحققة".

 إن هذه الأبعاد المختلفة المكونة لشخصية أرسطوفان تجعل كتابته المسرحية نموذجا بارزا للتفاعل بين الأدبي والسياسي، ولعل هذه الخاصية نفسها هي التي جعلت بعض الدارسين يقيمون علاقة بين السياق السياسي وبين البنيات الأدبية للكوميديا لدى أرسطوفان.

فشارل مورون Charles Mauron، مثلا، يميز في ما سماه بالأنساق الكوميدية لهذا الرجل بين مجموعتين من الأعمال، وذلك في ضوء التأثير الذي مارسته  الأحداث السياسية على إبداعاته المسرحية. تتضمن المجموعة الأولى مسرحيات منها "السلم" تتميز بنوع من الوحدة التاريخية والثقافية تقع بين انتصار بيلوس Pylos وسلم نيسياس Nicias؛ بنيتها الأساسية هي الهجاء. 

أما المجموعة الثانية التي تندرج ضمنها مسرحية "الضفادع"، فتتضمن أحداثا سياسية خطيرة يقول عنها مورون: "إن أرسطوفان - بانطلاقه من الواقع - منذ "العصافير" حتى "بلوتوس"، تعجبه سلسلة من أشكال الهروب منها: أحلام سياسية (العصافير وليزيستراتا)، خيالات أدبية (أعياد ديمتر Thesmophories والضفادع)، وأخيرا يوتوبيات اجتماعية (مؤتمر النساء وبلوتوس)".

 يلاحظ، إذن، أن "الضفادع" تدخل ضمن المجموعة الأكثر تفاعلا مع الواقع السياسي لأثينا في عصر أرسطوفان، لأنها تجسد طريقة  مميزة في التعامل مع هذا الواقع تتمثل في الهروب نحو الخيالات الأدبية.
يمكن القول بعبارة أخرى: إن الضفادع تقدم لنا رؤية شعرية عن راهنها السياسي.

لقد استحضرنا هذه المعطيات القبلية لأننا نرى أنها تحكمت في الكيفية التي تبنين بها الميتا مسرح في "الضفادع" حكائيا، وموضوعاتيا، ونوعيا أيضا، كما أنها وجهت وظيفته في اتجاه ما هو جمالي وايديولوجي، في آن واحد.

 تتكون مسرحية "الضفادع" من قسمين كبيرين: يتضمن الأول منهما نزول ديونيزوس إلى الجحيم، ويتميز بطابعه الكوميدي البارز.

ويتضمن القسم الثاني حوارا، ومنافسة، أو بالأحرى جدالا قويا ذا طابع أدبي وسياسي بين شاعرين تراجيديين هما إسخيلوس ويوريبيديس اللذين يتنافسان على عرش التراجيديا.
إن هذا القسم يشكل جزءا هاما ضمن بنية هذا العمل الكوميدي يسمى عادة بالمساجلة آgon.

إن نزول ديونيزوس إلاه المسرح إلى الجحيم هو من أجل البحث عن "شاعر حاذق" قادر على قول كلمة شجاعة، في عصر غاب عنه كتاب التراجيديا الكبار.

لذا يشكل كل من إسخيلوس ويويبيديس اللذين دخلا - بحكم قانون يتعلق بالفنون التي تشغّل القدرات الكبرى للعقل - في مواجهة بينهما، محور اهتمام ديونيزوس الذي سيحضر مسابقة بينهما تتوج باختيار أحدهما لإنقاد أثينا.

ويلاحظ، بالفعل، أن المنافسة بين الشاعرين سوف تستغرق القسم الثاني من المسرحية بكامله حيث سيتم الانتقال من التنابز بالألقاب إلى المنافسة حول التراجيديا وما يرتبط بها من لغة، ومناخ تراجيدي وشخوص ونماذج بشرية ومقدمات وأناشيد.

وأمام حيرة ديونيزوس في الاختيار بين الشاعرين على أساس هذه المبارزة الفنية والأدبية، يأمرهما بالانتقال إلى مواجهة ذات طابع إيديولوجي وسياسي حيث يطلب رأيهما في الوسائل الكفيلة بإنقاد أثينا من وضعية التشرذم السياسي، فيكون الإنتصار لإسخيلوس في النهاية.

 إن الحدث في مسرحية "الضفادع"، إذن، متمفصل إلى جزءين، أحدهما يعد تأطيرا للثاني وتمهيدا لأجوائه ومحاولة لوضع المتلقي في سياق المواجهة التي ستجري بين شاعرين تراجيديين. إن "الجزء الأول المضحك جدا، والمتميز بطابع كوميدي لا يقاوم، موجه لإضحاك المتفرجين وتهيئ  أمزجتهم لتركيز اهتمامهم على الجزء الثاني، أي على الموضوع الحقيقي للمسرحية".

 والملاحظ أن الشخوص التي تصنع الحدث في الجزء الثاني ذات طبيعة مسرحية، ضمنها آلهة وشعراء تراجيديون، كما أن محور صراع المواقف والخطابات بينها هو التراجيديا بكل مكوناتها وخصائصها.

 لذا، فإن جردا مختصرا لمختلف القضايا التراجيدية الذي تصارع حولها إسخيلوس ويوريبيديس، من شأنه أن يؤكد الطبيعة الأدبية لموضوعات المسرحية، إلى حد أن البعض اعتبرها بمثابة "المسرحية الأكثر أدبية، ربما، في تاريخ الكوميديا كله".

ونعتقد أن لهذا الحكم ما يدعمه بالنظر إلى لجوء المسرحية إلى إجراء ميتامسرحي بارز يتمثل في الموضوعاتية الذاتية Autothématisme.

 فالجدال ينتقل بين الشاعرين من موضوع اللغة التراجيدية إلى الشكل، ثم إلى القيم الأخلاقية والسياسية.
ومن مظاهر الحدة في النقاش، ما دار بين الشاعرين حول مسألة المقدمات Prologues التراجيدية:
" يوريبيديس: (لإسخيلوس) أريد، إذن، مهاجمة مقدماتك نفسها... ينقصها الوضوح في عرض الأحداث.
ديونيزوس: وما الذي تفضله؟
يوريبيديس: عدد كبير جدا. استعرض لي أولا مقدمة مسرحية " أورستس".

وعندما يستعرض إسخيلوس هذه المقدمة، يؤكد يوريبيديس لديونيزوس انها تتضمن أكثر من اثنتي عشر خطأ من بينها التكرار والتناقض.
ويؤكد، بالمقابل، أنه يحترم القواعد في كتابة مقدماته.

 ولعل ما يثير الانتباه في المسرحية هو أن أرسطوفان استغل هذا الجدل الأدبي حول التراجيديا لتمرير مواقفه الذاتية وخطاباته الخاصة حول المسرح، وبالتالي حول سبل إنقاد أثينا.

ويبدو ذلك واضحا من خلال استثمار مكون كوميدي أساسي هو ما يعرف بالخطاب المباشرParabase، حيث يطلق على لسان الكوريفيCoryphée نداءات للوحدة والمساواة بين المواطنين.

إن هذا الإجراء هو الذي جعل شارل مورون يرى في " الضفادع " إطارا تلتقي فيه الأسطورة الشخصية للمؤلف بالأسطورة الجماعية للمدينة؛ وقد ساعدت البنية النوعية للمسرحية على تحقيق هذا اللقاء لاسيما وأنها مسرحية كوميدية شكلا ومضمونا.

 فمن حيث الشكل، نجد فيها مكونات الكوميديا الكلاسيكية وخصوصا منها : المساجلة والخطاب المباشر.
أما من حيث المضمون، فاستحضار أرسطوفان لموضوع التراجيديا كان الهدف منه تحقيق مطلب أساسي في الكوميديا يتمثل في المحاكاة الساخرة من النوع الجاد وتسخيف الأساطير الإلهية التي يقوم عليها.

ويبدو أن تدخلات الجوقة أو الكوريفي في الصراع بين الشاعرين المتنافسين، تترجم بوضوح هذه السخرية، كما تعكسها أيضا تعليقات كزانتياس خادم ديونيزوس.

فعندما تقرر مثلا اللجوء إلى وضع التراجيديا في الميزان، اقترح هذا الخادم استحضار مسطرات وإطارات ومقاييس مستطيلة،  ثم علق بقوله:
"كزانتياس: سيصنعون آجرا، إذن."

إن مثل هذه التعليقات الساخرة تنسجم وطبيعة النقد الممسرح الذي يقول عنه جاك نيشي: "إن النقد الذي يأتينا من المسرح يعلمنا، قبل كل شيء، عدم الاحترام".

ولا يكتسي عدم الاحترام هنا صبغة أخلاقية، وإنما هو مفهوم جمالي يتلاءم وطبيعة المحاكاة الساخرة التي تضع في المحك كل أشكال التسامي والجدية في التعبير، ولاسيما منها تلك المنحدرة من التراجيديا كنوع جاد يقوم على قيم أخلاقية وسياسية محددة.

 إن الشيء المثير في "الضفادع" - باعتبارها كوميديا ساخرة - هو كونها تضع كل أشياء العالم موضع ضحك وسخرية، بما في ذلك المدينة بطقوسها ومؤسساتها ومهنها وشؤونها العامة، والطبيعة بسمائها وأرضها وبحرها ومخلوقاتها، مما يجعلها تتحول إلى حقل مفتوح "للعبثية الطفولية"، أو إلى "نكتة كبيرة"، يقترح فيها أرسطوفان بديلا شعريا لإنقاد المدينة، يشبه في بساطته بساطة الألعاب الطفولية.

 وتبدو خاصية اللعب هاته بارزة في جانب اللغة التي كتب بها أرسطوفان مسرحيته، حيت تختلط الأصوات المحاكية Onomatopés للضفادع، بالمفارقات اللغوية (يوصف ديونيزوس بكونه صغيرا مثل مولون العملاق)، والحوارات الساخرة التي تعالج موضوعا جادا بنوع من السخافة والابتذال.

إن النقد الممسرح في "الضفادع" قد وجد في بنياتها الحكائية والموضوعاتية والنوعية واللغوية ما يساعده على تحقيق ممارسة نقدية جديدة تعبر- حسب نيشي - عن إرادة واضحة في خلق شكل جديد للممارسة المسرحية نفسها.

  وعندما نتأمل، بالفعل، موقع "الضفادع" ضمن ريبرتوار أرسطوفان، نلاحظ أنها تشكل نسيجا فريدا من نوعه، ويمكن تفسير ذلك بكون هذه المسرحية تجسد لحظة تأمل أملتها شروط سياسية وثقافية معينة تطلبت من الرجل مسرحة أفكاره الشعرية حول التراجيديا في علاقتها بواقع أثينا آنذاك.

إن مسرحية "الضفادع" بتحويلها لالإه المسرح إلى مهرج، وسخريتها من النوع الجاد، تشتغل باعتبارها خرقا أو انزياحا مزدوجا لاسيما وأن النقد الممسرح فيها يستند على أبعاد جمالية وإيديولوجية في آن واحد.

فالمسرحية، من هذه الزاوية، تسير في اتجاه ما أكده نيشي عندما قال بأن "نقد المسرح داخل المسرح يخلخل المؤسسة حيث يتقابل مسرح مع مسرح آخر، ووظيفة  إيديولوجية مع أخرى، ولذة حية مع أخرى، مما يعني أن انزياحا قد تحقق".

وإذا كانت عناصر الانزياح الجمالي قد جسدت حكائيا من خلال صراع شاعرين تراجيديين، وموضوعاتيا باستحضار ومسرحة قضايا التراجيديا، ونوعيا باستثمار كل قوة الكوميديا الساخرة، فإن الإنزياح الإيديولوجي يستوجب استحضار واقع أثينا لاستيعاب تجلياته وأبعاده.

  لقد تمت الإشارة سابقا، إلى أن أرسطوفان رجل يتفاعل مع راهنه السياسي والاجتماعي.
وإذا ما عدنا إلى واقع أثينا خلال القرن الخامس قبل الميلاد، نلاحظ أنها عانت من انعدام الاستقرار السياسي، بحيث تعاقبت عليها أربع حكومات في بحر خمس سنوات، وأصبحت على حافة الخراب بفعل الحرب والثورات المتتالية وصراع الجماعات والأحكام القاسية على المواطنين التي وصلت حد النفي.

أمام هذا الواقع المضطرب، وجد أرسطوفان نفسه، من موقع المثقف المتفاعل مع شرطه التاريخي، مرغما على اقتراح حل أو بديل لهذا الوضع. من ثم، جاءت مسرحية " الضفادع " عبارة عن صياغة شعرية لبديل سياسي.

فمن خلال السخرية من التراجيديا، حاول أرسطوفان تدمير الطريقة التي يتم بها تمثيل الإنسان في هذا النوع الجاد. لهذا، جاء ضربه لمفهوم التراجيدي أو البطولي، لأن أثينا لم ترث منه سوى الصراع والقوة والعنف الذي أدى إلى دمارها.

في هذا الإطار، يلاحظ أن بحث ديونيزوس عن شاعر حاذق وشجاع، هو في الحقيقة بحث عن مخلص من هذا الوضع المتشرذم.
لذا، فلا عجب أن نجد الكوريفي - لسان حال الكاتب - يدعو إلى الوحدة ونبذ الخلاف، وأن يكون العامل الحاسم في اختيار ديونيزوس هو البديل السياسي الذي اقترحه الشاعران.

كل هذه المعطيات تؤكد أن الميتامسرح في "الضفادع"، يمكن أن يؤول، على الأقل، من ثلاث زوايا مختلفة: تاريخية، نفسية وجمالية؛ وكل وحدة منها تصب في الأخرى بحكم الضرورة.

 فمن الزاوية التاريخية، المسرحية مرتبطة بزمنها، ومسرحة التراجيديا هي مسرحة لواقع أثينا في فترة عصيبة شرحنا مواصفاتها سابقا.
ولعل هذا ما يضفي على النقد الممسرح صبغة سياسية.

فأرسطوفان - انطلاقا من موقعه كمسرحي - حاول إنقاد مدينته باعتماد مفاجأة مسرحية Coup de théâtre تمثلت في عودة إسخيلوس التي تبين أن "أرسطوفان أراد إنقاذ السياسة بواسطة الشعري".

هذا البديل الشعري يترجمه اللجوء إلى الضحك والسخرية حسب شارل مورون، أو استعمال الخيال Fantaisie حسب ميشال كورفان.

إن عناصر اللعب والخيال هي التي أضفت على الميتامسرح المسيس في "الضفادع" بعدا نفسيا تمثل في الصراع الذي عاشه الكاتب بين مبدإ اللذة الجميل ومبدإ الواقع الضاغط، الذي حاول حسمه بالضحك والسخرية باعتبارهما نوعين من "الإنقاذ  الطفولي".

 ومادام الهدف الأسمى بالنسبة لأرسطوفان هو المجتمع الأثيني، فإن المسرحية تعمل من خلال المحاكاة الساخرة وتسييس الخطاب الميتامسرحي على خلخلة يقينيات المتلقي، ودفعه إلى المشاركة في "محاكمة جماعية" لقيم شعرية وسياسية محددة، وبالتالي إلى محاكمة ذاته في نهاية الأمر.

فالمسرحية، إذن، تنحو نحو خلق متلق جديد يخضع لتربية جديدة.
لذا، فلا عجب أن نجد بلوتون يترجم هذا التوجه في نهاية المسرحية قائلا:
"بلوتون: (عائدا رفقة ديونيزوس وإسخيلوس)
هيا يا إسخيلوس، عد سعيدا وأنقد مدينتنا بآراء سديدة.
اعمل على تربية البلداء، إنهم يشكلون جحفلا".

 إن الوظيفة التأويلية للميتامسرح في "الضفادع تتبدى، إذن، من خلال خلق شروط جديدة للتلقي، دون أن تغيب التفكير في شروط إنتاج وتلقي نوع جاد هو التراجيديا التي كرست قيما أخلاقية وسياسية محددة في المجتمع اليوناني.

 خلاصة القول إن مسرحية "الضفادع" نموذج بارز لما سميناه سابقا ب" عمل المواجهة Oeuvre de combat"، أقام أرسطوفان بنيتها الصراعية على مبدإ أساسي هو: إن صراع التراجيديات هو صراع شعري ذو أبعاد سياسية وإيديولوجية.

وبناء عليه، اختار مختلف التوسلات النصية الملائمة لترجمة هذا المبدإ، باستعمال المساجلة الكوميدية والمحاكاة الساخرة من النوع الجاد وخلق التقابل بين نمطين من الإنتاج والتلقي المسرحيين.

كل هذه الإجراءات تمت بلورتها بكيفية حولت الميتامسرح في "الضفادع" إلى رؤية للعالم تحلم بمجتمع أثيني قائم على أساس الوحدة والتجانس والاستقرار السياسي.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال