كتب جان جيرودوJean Giraudoux "مرتجلة باريسl’Impromptu de Paris" سنة 1937.
ولعل أول ما يستأثر بالاهتمام في هذه المسرحية هو كون تاريخ كتابتها يتطابق مع زمن أحداثها، لاسيما وأن الأمر يتعلق بتداريب تقوم بها فرقة مسرحية يديرها جوفي Jouvet، زوال أحد أيام عام 1937.
ويدل هذا التطابق بين زمن الكتابة وزمن الحدث على رغبة الكاتب في تحيين خطابه، وجعله ملائما لطبيعة المرحلة التي عاش خلالها صراعا مع شريحة من النقاد أساؤوا - في نظره - للمسرح.
وقد اتخذ جيرودو من عمله هذا وسيلة لبلورة منظوره الخاص إزاء بعض القضايا المتصلة بالظاهرة المسرحية جماليا وسياسيا.
تحكي "مرتجلة باريس" قصة فرقة مسرحية تجري تداريبها العادية بحضور مخرجها، ويستغل أفرادها هذا اللقاء من أجل تداول الآراء حول قضايا تهم المسرح: مفهومه، اتجاهاته، علاقته بالجمهور، دور الممثل فيه ... إلخ.
يقتحم متطفل عالم الفرقة فيضطر - نظرا لرد الفعل الذي لقيه من أعضائها - إلى أن يوضح لهم أن المهمة التي يتقلدها تسمح له بالدخول دون سابق إعلان ودون موعد محدد سلفا، خصوصا وأنه عين مندوبا على ميزانية المسارح.
ينخرط مع الفرقة ومخرجها في نقاش حول معاناة المسرح مع النقاد ومسؤوليتهم في ما أصاب المسرح الفرنسي من ضعف لغوي وتراجع في القيمة الأدبية.
وسرعان ما سيتخذ النقاش بعدا وطنيا وسياسيا، خصوصا وأن روبينو Robinneau لم يعد ينظر إليه باعتباره متطفلا، وإنما باعتباره ممثلا للسلطة قادر على رفع طلبات الفرقة إلى الحاكمين.
ولعل هذا ما سيؤكده لهم هو نفسه في نهاية المسرحية:
"روبينو: لا تقلقوا أيها السادة. كيفما كان المنفذ الذي سأخرج منه من هذه الخشبة، فإن الدولة سوف تتعرف على رغباتكم".
إن التأمل الأولي في أحداث "مرتجلة باريس" يبين أنها خرجت من معطف موليير ومرتجلته. ففي كلتا المسرحيتين نجد أمامنا فرقتين مسرحيتين: فرقة موليير وفرقة جوفي، تجريان تداريب مسرحية.
ويتعلق الأمر، في الحالتين معا، بـ"مسرحية ممثلين"، والفرق بينهما يكمن في طبيعة النوع الدرامي.
إن روبينو عند جيرودو هو الوجه الآخر للاتوريليير عند موليير.
فكلاهما دخل على الفرقة دون سابق إعلان.
إن المرتجلتين معا تقومان على إجراء متشابه هو العرض الذاتي Autoreprésentation المتمثل في تشخيص الممثلين لواقعهم في المسرح.
إننا، إذن، أمام نوع من التناص على مستوى الحدث المسرحي بين جيرودو وموليير، له مظاهر أخرى تدعمه على مستوى الخطاب والموضوعات الممسرحة.
فـ"مرتجلة باريس" تبدأ بنفس البداية التي نجدها في "مرتجلة فرساي"، ولهذا ما يبرره بالنسبة لبوفوريو Boverio الذي سئل عن المسرحية التي سوف ينطلق منها الممثلون فأجاب:
"بوفوريو: شيء بديهي، بداية مرتجلة فرساي. إنها المقال الذي يلائم المقام".
هذه الإحالة على موليير سرعان ما تتردد أصداؤها في حوارات الشخصيات إلى حد أن "مرتجلة باريس" تأخذ حرفيا بعض المقاطع المولييرية من ذلك، مثلا، ما قاله مولييير في حق الممثلين: "آه، الممثلون هذه الحيوانات الغريبة التي علينا قيادتها".
في هذا السياق، يلاحظ أن قضية الممثل حظيت لدى جيرودو بنفس الأهمية التي حظيت بها لدى موليير، وذلك ما يتأكد من خلال ما عبر عنه آدم:
"آدم: لا أراكم توقفون العرض وتأتون إلى مقدمة المسرح لتقولوا له: جمهوري المسكين، المؤلفون يتجاهلونك والنقاد يضللونك والمديرون يحتقرونك، وليس لك سوى صديق واحد هو الممثل".
إن جيرود يجعل من قضية الممثل هذه مجال مواجهته لأولئك الذين يستغلون المسرح من الخارج. لذا، نجد في المرتجلة سخرية من روبينو ممثل السلطة والمال، مع صياغة خطابات تسير في هذا الاتجاه مثل:
"جوفي: ليكن المسرح للممثلين وليس للمستغلين".
وفي نفس السياق أيضا، يعبر جيرودو عن مواقفه من الإخراج المسرحي ومن بعض اتجاهاته كالواقعية والشعبية محاولا الكشف عن الالتباسات التي ولدتها بخصوص علاقة المسرح بجمهوره.
ومادام يرى أن الوسيلة المثلى للكشف عن الحقيقة للناس فهي المسرح نفسه، فقد اختار المرتجلة باعتبارها صيغة كفيلة بتبديد أشكال سوء التفاهم مع الجمهور، وتوضيح موقفه من قضية أساسية شغلته - كما شغلت موليير قبله - تتعلق بعلاقة النقد والنقاد بالمسرح.
في هذا الإطار، يلاحظ أن جوفي يصفهم، بنوع من السخرية، بالملائكة الذين "يقبله بعضهم إلى حد الخنق".
علاوة على هذا، فالمرتجلة تلجأ إلى الاستيهام والحلم في رسم صورة النقاد. فجوفي يرى أن بإمكانهم كشف حسابه في البنك وتدارك عجزه المالي وأداء تعويضات الممثلين نيابة عنه.
إن للسخرية من النقاد في المرتجلة وجهها الجاد أيضا، ويتجلى في المواقف المباشرة والصريحة التي عبر عنها جوفي معتبرا أنهم السبب في تراجع مستوى المسرح الفرنسي:
"جوفـي: إذا كانت الخشبة الفرنسية قد أصبحت خلال عقود من الزمن ملجأ للدمى والتفاهات، وإذا كانت اللغة الدرامية لا تتجاوز اللهجة المحلية، وإذا كان المسرح الفرنسي قد مس بشكل خطير في نبله الذي هو الكلمة وفي شرفه الذي هوالحقيقة، فإنهم، بطبيعة الحال، المسؤولون الأولون عن ذلك".
إن جيرودو يلامس - على لسان جوفي - القضية الجوهرية في المرتجلة والمتمثلة في "اللغة الدارمية"، حيث يلاحظ دفاعه عن الطابع الأدبي لهذه اللغة.
ففي نظره، هنالك علاقة وطيدة بين المسرح واللغة والمتخيل والوطن.
لذا، فإن الإساءة إلى اللغة المسرحية باستعمال "المقول Le dit" عوض "المكتوب L'écrit"، هي إساءة للمتخيل المسرحي الذي يصنع قوة الوطن.
من ثم، يمكن القول إن المرتجلة تحدد جمالية Esthétique اللغة الدرامية وأخلاقها Ethique في آن واحد.
يتمثل الجانب الجمالي في العناية بأسلوب الكتابة، واستعمال اللغة الوطنية عوض اللهجات، مع الارتقاء بها نحو الشاعرية.
أو بعبارة واحدة، إن هذه الجمالية تتحدد فيما يمكن تسميته بـ"أدبية Littérarité" اللغة الدرامية.
في ضوء هذه الأدبية، تستهجن المرتجلة استعمال اللهجة العامية بدعوى النزول إلى مستوى الجمهور، لأن ذلك يسقط في السهولة والابتذال.
لذا، فإننا نعتقد أن لارطوما Larthomas قد أصاب عندما قال عن المرتجلة أنها "بيان حازم لصالح المسرح الأدبي".
وإن كانت لا تقبل الدلالة التي أعطاها النقاد لكلمة "أدبي"، حيث استعملوها بنوع من الاستهجان، في حين أنها تدل - في نظر جيرودو- على نبل اللغة ورقيها وشرفها وقربها - وهذا هو الأهم - من "الحقيقة الوطنية".
في ضوء هذه الحقيقة، ينبغي وضع أخلاقيات اللغة الدرامية.
لذا، يلاحـظ أن خطاب المرتجلة منفتح، بشكل بارز، على بعدين أساسيين: سياسي ووطني.
يظهر البعد الوطني من خلال تركيز جيرودو على "المسرح الفرنسي" بالأساس، حيث يصبح الحرص على اللغة الفرنسية الراقية والأدبية في المسرح حرصا على فرنسا نفسها، لاسيما وأن ثمة علاقة مباشرة - كما سبق الذكر - بين اللغة والمتخيل والوطن.
لهذا، فإن " صراع الأدبية " في المسرح يكتسي خطورة كبيرة مادام مفتوحا على البعد الوطني.
ولعل هذا ما يؤكده جوفي في المسرحية عندما يدين النقاد ويبين تحقيرهم للمسرح، وبالتالي للوطن:
"جوفي: تحقير المسرح يعني تحقير المتخيل واللغة والوطن".
إن النموذج الذي ينبغي أن يحتذى، في هذا السياق، هو النموذج الكلاسيكي. فالممثل الذي لا يتنفس ولا يتكلم بإيقاعات راسين ليس جديرا بالاحترام.
لهذا، يمكن القول إن "مرتجلة باريس" تجسد "عودة المكبوت" في الثقافة المسرحية الغربية ممثلا في النموذج الكلاسيكي لغة وقيما وطنية، لاسيما وأن هذا النموذج سبق وأن تعرض لهجوم قوي من لدن الرومانسيين فتح الباب على إثره للمسرح الغربي لكي يعيد النظر في إرثه المنحدر من أرسطو.
ولعل ما يقوي هذا التأويل النفسي هو كون المسرحية تستحضر بنوع من القياس والمقارنة بعض رموز العصر الكلاسيكي كموليير وديكارت ولويس الرابع عشر. إن فرنسا في عصر جيرودو في حاجة إلى نموذج شبيه بموليير وإلى آخر شبيه بلويس الرابع عشر: "روبينو: اتني بموليير، وسأتكفل بأن أكون لويس الرابع عشر".
إن هذه الإشارة تجعلنا نقف على البعد الثاني في خطاب المرتجلة، ألا وهو البعد السياسي، ويتجسد في علاقة المسرح بالدولة في نظر جيرودو، حيث نستشف ذلك من قول لجوفي المخرج:
"جوفي: إذن، ألا تعتقد، أولا، أنه إذا كان دور المسرح هو خلق شعب يستيقظ كل صباح فرحا بفكرة لعب دوره في الدولة، فإن أقل ما يمكن أن تقوم بـه الدولة هو صنع شعب يكون مستعدا، كل مساء وبنضج، من أجـل المسرح".
إن العلاقة متبادلة، إذن، بين المسرح والدولة. وإذا كان موليير قد لعب دورا هاما بالنسبة لفرنسا، فإنه ما كان ليحقق ذلك لولا أن الحكم كان وراءه.
ومادام "المسرح المنخور يعني وطنا منخورا"، كما تؤكد المرتجلة، فإن جيرودو كان يطمح - من خلال هذه الإشارات إلى ضمان مساندة الدولة قصد إرساء دعائم "مسرح أدبي" يكون في صالح فرنسا.
يستخلص مما سبق، أن الميتامسرح في "مرتجلة باريس" اعتمد على استراتيجية التناص مع "مرتجلة فرساي"، وذلك من أجل بلورة صراع ذي أبعاد جمالية وسياسية، يدور بين جيرودو ونقاد المسرح بصفة عامة في فرنسا، ويتمحور بالأساس حول "أدبية المسرح".
ولعل الخاصية المميزة لخطاب جيرودو الميتامسرحي التي تطبع مرتجلته وتميزها عن غيرها هي الطابع الوطني المتمثل في ربط القضايا الممسرحة بقضية وطنه فرنسا.
التسميات
مرتجلات ميتامسرحية