تحتاج معرفة الخطاب الشعري إلى القبض على دلالته ورصد شبكة العلاقات المتداخلة التي تكوّن جمالياته، وتُخفيها عن القارئ، فالدلالة في النص تبين وتخفى سريعاً، إنه يؤمئ ويوحي وينتشر ويلمع، ولكنّه لايشير، وهذه الحركية بين الخفاء والتجلّي، وبين التجلّي والخفاء، سمة من سمات النّص المفتوح الثري، وهي التي تفعل فعلها في ذهنية القارئ، وتدفعه إلى المقاربة والمجاسدة والإنتاج، وهي فاعلية إحضار الغائب واستنطاق المسكوت عنه، و "لتحقّق القصيدة شعريتها ينبغي أن تكون دلالتها مفقودة في وعي القارئ، ثم يعثر عليها في الوقت نفسه" "12"، ويأتي -هنا- دور المعجم الفنّي ليسهم في استنطاق الدال الذي يسبح في فضاء شاسع، ويخلق فضاءاته الموحية، ولهذا لابدّ من اللجوء إلى التزامني "SYNCHRONIE" لإيقاف هذا الجامح الراكض كجواد امرئ القيس الأسطوري في كلّ اتجاه، للكشف عنه في أنساقه وحقوله الدلالية التي تشعّ منها وتنطلق وتتكسّر الدلالات اللاّنهائية، وتتشظّى في الآفاق والأبعاد والمستويات.
ويُقصد بالمستوى المعجمي مجموعة الشفرات والإشارات والعلامات اللغوية التي تشكّل بنية نصّ ما تشكيلاً جديداً من خلال سياق يشحن هذه الألفاظ المعجمية بمجموعة من الدلالات السياقية التي يتفرّد بها النص الشعري، وهي التي تشكّل حقوله الدلالية "CHAMPS SةMANTIQUES" التي تُعدّ البنى الصغرى لبنية النص الكبرى (المضمون الإجمالي للنص أو كليته ووحدته).
يتألف هذا النص الشعري من أربعين بيتاً، تتوزّع ألفاظه كما يلي: الأسماء 210، منها 93 اسماً نكرة و117 اسماً معرفة، والأفعال 53 فعلاً، منها 26 فعلاً ماضياً، و27 فعلاً مضارعاً. والقراءة الإحصائية تثبت هيمنة الاسم على الفعل والمعرفة على النكرة، كما تهيمن الأفعال الماضية والمضارعة هيمنة تامة (ليس في النص الشعري أفعال أمر)، وذلك ليؤكّد الشاعر أنّ التجربة التي يعانيها يقينية، وأن مصيره حتمي، ولا أمل له في عودة الحبيبة عما عزمت عليه، ولذلك استخدم هذه الأسماء وهذه الأفعال، ليشير إلى حالة ماضية حاضرة من خلال الوصف والتقرير.
وتُشير القراءة الكشفية للمستوى المعجمي إلى أن هذا المستوى ينفتح على محورين كبيرين يكوّنان المفاصل الأساسية لهذا النص، وينفتح كل محور منهما على مجموعة من المعاجم الفنّية الخاصة به.
- المحور الأول: محور المرض وهجران الحبيبة والحزن والشقاء والعزلة الاغترابية والموت، وماله صلة بهذه المعاني.
- المحور الثاني: محور الصحة والشفاء والحياة، وماله صلة بهذه المعاني.
المحور الأول:
يمثّل المحور الأول قطب النص الشعري وبؤرته، فتنضوي تحته عدة محاور فرعية، تصبّ كلها في محور الموت، وإذا ضربنا لذلك مثلاً بالبنية الصغرى التالية: "قلبٌ أذابته الصبابة والجوى"، وجدنا أن الإذابة تتضمّن في السياق المرض والهجران والحزن والشقاء والعزلة والاغتراب والموت معاً، فالقلب ليس سليماً، فقد أُصيب بحادث ما غيّر في مسيرته وحركته وطبيعته، وهذا الحدث هو هجران الحبيبة، وقد أفضى الهجران إلى الحزن والشقاء والعزلة والاغتراب الذي يعيش فيه الشاعر، وهذا ما يُفضي إلى الذوبان، وهو حالة من التلاشي والاختفاء والموت (ذوبان الشمعة- الملح- السّكّر.. إلخ)، ولكنّ هذا الذوبان أو التلاشي حاضر في بنية النص التحتية كحضور السّكر أو الملح في الماء أو الطعام..
ويتشكّل المحور الأول من معاجم فنّية متداخلة، أهمّها:
- المعجم الفنّي الأول: المرض ومافي حكمه:
داءٌ ألمّ/ غلالةٌ رثّت من الأدواء/ يفتُّها كالسقم في أعضائي.
- المعجم الفني الثاني: الهجران وما في حكمه:
قلبٌ أذابته الصبابة والجوى/ هل مسكةٌ في البعد للحوباء.
- المعجم الفني الثالث: العزلة والاغتراب ومافي حكمهما:
عبث طوافي في البلاد/ علّة في علّة منفاي لاستشفاء/ متفرّد بصبابتي/ متفرّد بكآبتي/ متفرّد بعنائي/ شاكٍ إلى البحر اضطراب خواطري/ ثاوٍ على صخرٍ أصمَّ/ صدري ساعة الإمساء.
- المعجم الفني الرابع: الحزن والشقاء وما في حكمهما:
الدمع من جفني يسيل مشعشعاً/ تقطّرت كالدمعة الحمراء/ آخر أدمعي لرثائي/ تضاعفت برحائي/ استبّدا بي/ قلبٌ أذابته الصبابة والجوى/ والروح بينهما نسيم تنهّد/ كُتب الشقاء على الورى.
- المعجم الفني الخامس: الموت ومافي حكمه:
يضعفه نضوب دمائي/ أن يهلكوا بظماء/ تميت ناشقها بلا إرعاء/ قضيتُ بنشقة.
إنّ هذه المعاجم الفنية الخمسة تصبّ في المحور الأول الذي يدلّ إلى العزلة والاغتراب والحزن والشقاء والموت، وكلّ ماله صلة بهذه الدلالات، وهو محور يهيمن -كما سنرى- على المحور الثاني الذي يمثّل الوفاء والحبّ والحياة، ويطغى على بنية النص، ولذلك فإنّ مناخاً في الحزن الرومانسي خيّم على معجم الشاعر الفنّي.
المحور الثاني:
العافية والصحة والحبّ والوفاء والحياة والسعادة.
والمعجم الفنّي في هذا المحور واحد، وهو الشفاء والصحة:
خِلتُ فيه شفائي/ نعم الشفاء/ غربة تكون دوائي.
يتجلّى لنا من ملاحظة المحورين السابقين هيمنة معجمية المحور الأول على معجمية المحور الثاني في النص، وينفتح هذا المحور على فضاء حركي يتسع، ويمتدّ شيئاً فشيئاً ليشكّل فضاء الحزن والموت، حتى جاء مجسّداً لدلالات تعذيب الذات (المازوخية) إلى حدّ تغييبها عن دور الفعل والفاعلية، ولذلك فإن المحور الثاني جاء فقيراً في معاجمه الفنية، حتى إنه يكاد لايذكر بالقياس إلى المعاجم الفنية في المحور الأول.
وقد نذهب إلى حدّ القول: إنّ دلالات المحور الثاني تعكس في دلالتها المغيّبة دلالات المحور الأول في وظيفتها، وتبثّها في النص الشعري، فالشفاء الذي جاء في البيت الأول موهوم، لارتباطه بالفعل "خلت"، وهو هنا من أفعال الظنّ، وهو في البيت السادس عشر في حالة الرجاء والتمني، وليس في حالة التحقّق، هو رغبة تظلّ خارج التاريخ مالم تنتقل من الوجود بالقوة إلى الوجود الفعلي عبر الفعل الإنساني، هو شفاء الحلم والرغبة، ولكنه ليس شفاء الحقيقة، فالواقع يشكّل سدّاً منيعاً يحول دون تحقيق هذا الشفاء، أو هو على حدّ قول المتنبي:
ماكلُّ مايتمنّى المرءُ يدرِركُهُ -- تجري الرّياحُ بمالا تشتهي السّفُنُ.
ويقترن الشفاء في البيت الثامن عشر بالغربة والمنفى، ومع أن الشاعر يُنشد هذا الشفاء ويترقبه فإنه، في الوقت ذاته، يراه متعذر الوقوع، ولذلك فإنه يستسلم لإرادة الحبيبة الطاغية التي تسلّمه إلى الدموع والأحزان والغروب النفسي والمساء الشخصي.
التسميات
مساء مطران