الضرورة ما وقع في الشعر دون النثر سواء أكان للشاعر مندوحة عنه أو لا.. الشعر موضع اضطرار ، وموقف اعتذار ، وكثيرا ما يحرف فيه الكلم عن أبنيته ، وتحال فيه المُثُل عن أوضاع صِيَغها لأجله

هذا هو مذهب الجمهور[1]، وخلاصته: أن الضرورة الشعرية هي كل ما وقع في الشعر مما لا تجيز القواعد مجيئه في النثر سواء كان الشاعر مضطرا إليه لايجد عنه معْدِلاً أم لم يكن كذلك.

وسر هذا (أن الشعر لما كان كلاما موزونا تكون الزيادة فيه والنقص منه يخرجه عن صحة الوزن، ويُحِيله عن طريق الشعر المقصود مع صحة معناه ، استُجِيز فيه لتقويم وزنه من زيادةٍ ونقصان وغير ذلك مما لايُسْتجاز في الكلام مثله)[2].

كما أن (الشعر موضع اضطرار، وموقف اعتذار، وكثيرا ما يحرف فيه الكلم عن أبنيته، وتحال فيه المُثُل عن أوضاع صِيَغها لأجله)[3]، وبالغ بعضهم فقال: (إن الشعر نفسه ضرورة)![4]

ودليل الجمهور على هذا الذي ذهبوا إليه قول الشاعر:
كم بجودٍ مقرفٍ نال العلا
وكريم بخله قد وضعـــــه
حيث فصل بين (كم) وتمييزها المجرور بالجار والمجرور، وهو غير جائز لما فيه من الفصل بين المتضايفين [5]، وليس الشاعر هنا مضطرا إلى هذا الفصل، إذ بإمكانه أن يرفع (مقرف) أو ينصبه فيخرج من الضرورة.

واحتجوا أيضا بقول عامر بن جوين الطائي:
فلا مزنة وَدَقَتْ وَدْقَها
ولا أرض أبقل إبقالَها

قال الصفار في شرح الكتاب: (ألا ترى أنه حذف التاء من أبقلت وقد أمكنه إثباتها لو قال: (أبقلتِ ابقالها) وينقل حركة الهمزة إلى الساكن الذي قبلها))[6]

وابن جني هو إمامُ القائلين بهذا الرأي، إلا أننا نلمح في عرضه شيئا جديدا، ذلك أنه حاول أن يفسر لنا السبب في لجوء الشاعر إلى الضرورة مع أن في مُكْنَتِهِ الفرارَ منها، ونجده يقدم لذلك ثلاثة تعليلات:

1ـ إعدادها - أي الضرورة - لوقت الحاجة إليها:
يقول: (ولايمنعنك قوة القوي  من إجازة الضعيف أيضاً، فإن العرب تفعل ذلك تأنيساً لك بإجازة الوجه الأضعف، لتصح به طريقك، ويرْحُب به خناقك، إذا لم تجد وجها غيره، فتقول: إذا أجازوا نحو هذا ومنه بد وعنه ومندوحة، فما ظنك بهم إذا لم يجدوا منه بدلاً، و لا عنه معدلاً؟

ألا تراهم كيف يدخلون تحت قبح الضرورة مع قدرتهم على تركها، ليعدوها لوقت الحاجة إليها، فمـن ذلك... قوله:
لم تتلفعْ بفضل مئزرهــــا
دَعْدٌ ولم تُغْذَ دَعْدُ في العلبِ

كذا الرواية بصرف دعد الأولى، ولو لم يصرفها لما كسر وزنا، وأمن الضرورة أو ضعف إحدى اللغتين...)[7].

2ـ وضوح المعنى في نفس الشاعر:
(فكأنه لأنسه بعلم غرضه، وسفور مراده، لم يرتكب صعبا، ولا جَشِم أمما، وافق بذلك قابلا له، أو صادف غير آنسٍ به، إلا أنه هو استرسل واثقا، وبنى الأمر على أن ليس ملتبسا).[8]

3ـ إدلال الشاعر بقوته، واعتداده بنفسه:
و (مثله في ذلك.. مثل مُجْري الجموح بلا لجام، ووارد الحرب الضروس حاسرا من غير احتشام، فهو وإن كان ملوما في عنفه وتهالكه، فإنه مشهود له بشجاعته وفيض مُنَّتِه، ألا تراه لا يجهل أن لو تَكَفَّر في سلاحه، أو أعصم بلجامٍ جوادَه، لكان أقرب إلى النجاة، وأبعد عن المَلْحاة، لكنه جشم ماجشِمه على علمه بما يعقب اقتحام مثله، إدلالا بقوة طبعه، ودلالة على شهامة نفسه)[9].

ويشبه ماذكره ابن جني في هذا التعليل ماذكره أبو الطيب حين قال: (قد يجوز للشاعرمن الكلام مالا يجوز لغيره، لا للاضطرار إليه، ولكن للاتساع فيه، واتفاق أهله عليـه، فيحذفون ويزيدون)، وقال: (وللفصحاء المُدِلِّين في أشعارهم مالم يسمع من غيرهـم)[10].

[1] الضرائر للألوسي 6.
[2] مايحتمل الشعر من الضرورة للسيرافي 34.
[3] الخصائص 3/191.
[4] من كلام ابن عصفور، انظر الاقتراح 143.
[5] انظر همع الهوامع 4/82 و 5/332.
[6] الضرورة الشعرية في النحو العربي 144.
[7] الخصائص 3/62 ـ 63، وانظر أيضا 3/306.
[8] الخصائص 2/395.
[9] الخصائص 2/394.
[10] الوساطة للجرجاني 450 - 452، نقلا عن نظرية اللغة في النقد العربي 56.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال