العولمة، الإنترنت، الثورة الاتصالية، تفوُّق اللغة الإنكليزية، وغيرها من مؤشرات تطور العصر، مردداتٌ قد توحي بتراجع الترجمة، ولكن شهدت العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحالي توسعاً مذهلاً في الإقبال على الترجمة بين اللغات.
وربما على تمام المستوى من الأهمية تطور حقل الدراسات المتعلقة بالترجمة من ناحيتي النظرية والتطبيق.
وقد تعددت مناشط الترجمة وتنوعت وأصبحت تشكل حقلاً معرفياً قائماً بذاته.
وقد تعددت مناشط الترجمة وتنوعت وأصبحت تشكل حقلاً معرفياً قائماً بذاته.
وتشير الدلائل إلى أنه سيتبلور قريباً في شكل نظام معرفي discipline شأنه شأن الأدب المقارن أو النقد الأدبي.
وقد رفدته الدراسات الثقافية المعاصرة Cultural Studies رفداً قوياً من خلال تركيزها على قوة العامل الثقافي ذي التركيب المتداخل والمعقد، في تشكيل طرق تقرب البشر من شؤون المعرفة والعلم والأدب والفن من جهة وشؤون السلوك والأخلاق والعمل والتفاعل الاجتماعي من جهة أخرى.
وبالطبع هنا ترد الترجمة بوصفها عاملاً فعالاً في تلقيح الأفكار وتطويرها وإعادة تشكيلها، وذلك بصرف النظر عن صحتها أو دقتها أو مناسبتها أو فائدتها المنظورة أو انسجامها مع طبيعة التراث المتلقي الذي تحاوره.
وقد ازداد الموقف المعرفي للترجمة قوةًً، وكسب أيْداً كبيراً من خلال الدراسات الأنثوية Feminine Studies، التي رفعت من شأن الترجمة وقيمتها الفكرية، وحاولت أن تنقلها من خانة الحرفة إلى خانة نظام معرفي مستقبلي يكاد يطغى على أنظمة معرفية كانت حتى الآن تُعتبر اللسان الذهبي للعصر مثل الأدب المقارن، الذي جرى في الآونة الأخيرة تحدّيه إلى درجة أن كاتبة مثل سوزان باسنت تجد فيما يسمى: دراسات الترجمة Translation Studies حلاً لما يعتقد أنه معضلة الأدب المقارن وتبشر بمستقبل وضّاء لهذه الدراسات في السنوات القليلة القادمة.
يلاحظ هنا أن إسهام النساء في الترجمة ودراساتها في الغرب أصبح عاملاً في "تأنيث" مفهومات الترجمة والدراسات المتعلقة بها.
ولكن الحديث جرى حتى الآن في إطار الثقافة والأنظمة المعرفية الأدبية، وتعتبر الخطوة الرديفة في الأهمية ما تمّ علمياً من وصل الترجمة بمجالات البحث اللساني وسيميائيات التلقي والتناصّ.
إلا أن هذا ليس كل شيء، فالترجمة تتجه منذ منتصف القرن العشرين بقوة إلى أن تكون علماً موضوعياً بكل ما في الكلمة من معنى.
والحق أنه مع تعدد نظريات الترجمة وتقنياتها وأنواعها وأغراضها بات ضرورياً جداً أن ينتظمها القانون العلمي، ولاسيما أن الترجمة الآلية Machine Translation باتت تطغى على السوق العملي للترجمة وتنضج طرقها وتأخذ مكانها في عجلة الإنتاج الترجمي ذي الطاقة الهائلة والسرعة المذهلة ولاسيما في المجالات العلمية والتوثيقية والتجارية....
وإذا تركنا الناحية النظرية وتعقيداتها وأتينا إلى الناحية العملية، نجد أنه أصبح من فضول القول الحديث عن أهمية الترجمة في التفاعل والتلاقح بين الثقافات، وفي تقريب أفكار البشر بعضها من بعض، وفي إحلال التفاهم محل سوء الفهم والمرددات المتحزبة والتعميمات الرائجة stereotypes، وكذلك في إيقاظ كل ثقافة، بل كل لغة، من أوهام الكهف أي من المبالغة في الرفع من شأن إرثها الثقافي والإزراء بقيمة الثقافات الأخرى.
وبالمقابل يستطيع المرء أن يحصي للترجمة كثيراً من السيّئات، من مثل إدخال الأفكار الهجينة، وانتقاء ما هو برّاق ومخادع من الثقافات الأخرى مقابل الانصراف عن الرصين والعميق والمفيد، وكذلك سوء الترجمات وضعفها وخيانتها للأصل لدرجة أنها قد تزيف المضامين وتقدم للمتلقي ضروباًً من الأوهام والأباطيل من شأنها أن تشكل صورة مشوّهة تُبنى عليها فيما بعد قناعات ومواقف ليس لها أساس، وقد تتطور المسألة إلى درجة أن تصبح آفةً تاريخية يتوارثها الآباء عن الأجداد والأبناء عن الآباء.
والحق أن الإجماع منعقد بين العارفين على أنه مع اتساع حركات الترجمة في العالم، وازدياد عدد اللغات الداخلة في السباق الترجمي، ومع عدم توافر آليات (ميكانزم) ذات كفاية للضبط والإشراف، تسود يومياً الترجمات التجارية الرخيصة السريعة وتتسابق على أبواب الأسواق ونوافذ العرض، بينما تقبع الترجمات الرصينة والدقيقة والمسؤولة خلف كشافات الأضواء، أو في عتمة الرفوف والأروقة، لا يعبأ بها جمهور المتلقين، هذا إذا علم بها أصلاً.
والمشكلة انه في صميم تكوين عملية الترجمة توجد أرضية قوية تزيّن للمترجم وتسهل له فرصة الانحراف إلى عَرَض الاستهواء وبهرج الزيف والطلاء.
وإذا كان الإيطاليون يقولون إن الترجمة تعني الخيانة traduttore traditore (حرفياً المترجم خائن)، فالفرنسيون – على طريقتهم – أعطوا صورة أخرى طريفة إذ وصفوا الترجمات الزاهية بأنها الترجمات غير المخلصة les belles infidèlles (الجميلات الخائنات)، أي أن الترجمة إما أن تكون جميلة ولكن خائنة وإما أن تكون أمينة فهي بالضرورة قبيحة.
وإنه اختيار صعب أمام المترجم بل إن هذا الاختيار أشبه بهاجس يؤرق العاملين في مجال الترجمة في كل لحظة من عملهم ويسبب لهذا العمل كدراً كثيراً ناتجاً عن التردد والحيرة، على حين ينبغي أن يكون عمل الترجمة انسيابياً ومتماسكاً ليستطيع أن يفي برواء الينبوع الأصلي وأن يحمل مسحة من بكارته وإغوائه.
التسميات
دراسات أدبية