الشعراء الشباب والبحث عن الوعي.. كتابة الشعر وفق التوازن بين الأنا والجمع لا بالمتغير الذي أحدثه الواقع المؤدلج بل بالماضي الذي يشمل زمن الثورة والتراث

ونعني بالشعراء الشباب أولئك الذين كتبوا أشعارهم في الثمانينات وما بعدها حين حاولوا أن يؤسسوا لتيار شعري ذي سمات فكرية وفنية جديدة، أو هي سمات سائلة رافضة لما سبق- على الأقل- ويبدو أن الجديد عند هؤلاء الشعراء الشباب إنما يأتي استجابة لرغبة التغيير التي فرضها المتغير الحضاري الطارئ، فهم قد شعروا بعدم الرضا عن الفن المؤدلج الذي كتبه أسلافهم، والشعور عام نجده عند كثير من الباحثين والمتلقين بعامة.

وتبعا لهذا راح هؤلاء الشباب يكتبون من خلال اكتشاف الأنا في ظل الوعي الذي كانا غائبا أو مشكلا في ظل المغيبات الكثيرة التي فرضها الزمن الماضي، والكشف في ظل الانا اساس عندهم، فبه يعودون إلى بدايات الاشياء، ومصادرها النقية.

ونحن إذ نتحدث عن هؤلاء فإننا نعتبرهم بداية ممهدة للفن الجيد الواعي الذي سيأتي رغم أن بدايات بعضهم كانت مشجعة بل ورائعة، فأشعار نور الدين درويش وعزالدين ميهوبي ولحيلح وياسين بن عبيد... أساس جيد لابداع شعري سيستمر زمنا طويلا، بل ويؤسس للتواصل مع ما سيأتي، وذلك لما يحمله من سمات الايجاب الفكري والفني، ومن علامات الوعي المشكل في ظل الثابت الوطني والعقيدي والثقافي.

ونأتي إلى شعر هؤلاء لنجده مكتوبا وفق التوازن بين الأنا والجمع لا بالمتغير الذي أحدثه واقعهم المؤدلج بل بالماضي الذي يشمل زمن الثورة بخاصة ومعه كل جميل جليل كزمن الأمير عبد القادر (ت1883) وابن باديس (ت1940) أو زمن أبي الطيب وأبي فراس وحسان بن ثابت وعنترة بن شداد، فهم إذن شعراء مجددون باحثون بطموح عن وعي أصيل غائب، أو هم المشكلون للكلمة في ظل البحث الجاهد من أجل إعادة الامور إلى نصابها، أو صياغة الفن صياغة سليمة تستجيب لنداء الوطن الذي يجب أن يتشكل وفق ميزان التراث الايجابي في تناصه مع الحداثي المفيد.

ويمكننا أن نجد بعض هذا الايجابي في شعراء "رابطة إبداع" الجزائرية، هؤلاء الذين يجمعهم –فيما يبدو- هدف واحد أساسه الأنا المشكلة في ظل الجمع الواعي.

يقول رئيس هذه الرابطة  (سيظل إصرارنا شعلة تفتق إرادتنا العالية وجهودنا البانية لان يعلو الوطن الغالي دوما ولا ينحني، ولأن نكون في مستوى التضحيات المعطرة بالدماء عبر قرن ونصف ويزيد...).

والواضح أن هذا البيان وإن لم يحمل بعض السمات الاساسية للفن الا اننا نعتبره جهدا اوليا مبذولا في سبيل الوعي الذي سيبقى هاجس هؤلاء الشعراء، هذا الهاجس الذي نقرأه في بعض ما كتبوا، يقول الشاعر نورالدين درويش مبرزا سمات القول عنده:
لا خير في شعر يحيا بلا هدف -- يخضر حينا وبعض الحين  يحمر
أسأل أيا ياصاحبي عن صدق من كتبواهل طبقوا الشعر في الميدان أم فروا
مانفع القول إذا ما الفعل خالفه  مانفع شعـر إذا  ما خانه الشعر

  ويشرح ياسين بن عبيد أساس القصيدة عنده في إطار المتداخل الخاضع للأصيل المتجدد يقول في بداية حديثه عن أشعاره (فيها حضوري الغائب عن كل أداء فاضح يناهض القيم... والعامل الاكبر الذي نتبناه هو محاولة الابتعاد عن لعبة الشكل، والحرص على عدم الوقوع فيها حرصا يضمن الاستغراق في الأداء العفوي).

إن هذه المواقف الممهدة المعلنة التي ازدوج فيها الفن والهدف قد ترجمتها أشعار هؤلاء الشعراء الشباب الذين كتبوا في الثمانينات وبداية التسعينات من هذا القرن باحثين عن الايجاب الذي يؤهلهم للتفرد والتمايز، والاشعار يمكننا أن نقرأها وفق فئتين فنيتين متداخلتين زمانيا:

- الفئة الأولى: وتمثل البداية التي لم يبلغ فيها هؤلاء الشعراء النضج الفني المؤيد بالعمق الفكري، ويبدو أن المعول عليه في هذه المرحلة هو اللغة المنفعلة المتجاوبة مع الموضوعات الآنية التي قصروا عليها أشعارهم، والتي لم تتجاوز مرحلة الأفق الثقافي والسياسي او البنية الوطنية التي يجب أن تتغير لصالح القادم الإيجابي المؤيد بالماضي المشرق.

هذا هو الموضوع الأكبر الذي شغلهم، والذي نقرأه في كم شعري لا بأس به شملته السنوات المذكورة، وهو الكم الذي أتخذ له منحى البكاء والتحسر على ما أصاب الوطن الجزائري الذي ضحى من اجله ملايين الشهداء، وفي كل ذلك نجد النداء والبوح والنجوى وهي الخصائص التي اتسمت بها اشعارهم، فاحساسهم بالحزن في وطن تتضاعف آلامه، وفي مجتمع تحطم قوانينه عناصر ‏شخصيتهم أو تعيقها على الانطلاق، كل ذلك إنما جعلهم باحثين سائلين عن كل نموذج مشرق موصل إلى الغد الامثل.

أما المنادى أو المخلص أو الشاهد على المسيرة الخاسرة المجسدة في زمن اللاوعي فهو الكم الإيجابي من ذلك الموروث الضخم الذي يشمل زمن الثورة الممتد في الماضي الموصول بالعقيدي والتاريخي والادبي والكم سنبينه من خلال النماذج الشعرية الآتية المبنية على تماسك زماني يتنامى فيه التراكم الذي يعمق الانتماء من الحاضر إلى الماضي، أو لنقل من الماضي (زمن الثورة) إلى الماضي (ماقبله حتى ظهور الإسلام)، لأن الحاضر الكامن في زمن الاستقلال أو زمن الأدلجة المتناقضة مدان.

ونبدأ بالثورة التحريرية (1954-1962) التي تعد النموذج الايجابي أو المعادل الخير الذي صار مأوى الشعراء ينادونه مقتدين راجين فعلا ايجابيا حالا في الآني مغيرا وهاديا إلى الآتي، فالشاعر "عبد الله عيسى يقف عند روح الشهيد "احمد زبانة" في قصيدته "إلى احمد زبانة" يخاطبه ويكشف له عن مسيرة خاطئة أرادها بعض المزورين الذي شوهوا استقلال الوطن:
فأشهى الأماني لدينا المنايا -- لقد جاء بعدك ألف دعي
وبعد ثلاثين عاما تعبنا -- وأصفى رؤانا أبانا ضباب
بألف صلاة وألف كتاب -- أبانا تعبنا وجفا السراب

ويناجي محمد شايطة روح ابن باديس:
عبد الحميد وقد ثارت مشاعرنا -- تضوع في النفس حبا من ثنايانا
ياباعث المجد وإن طالت رزيتنا -- إنا شباب بنا تفنى بلايانا

وينادي ياسين بن عبيد الثورة الكبرى أو السبع الشداد علها تحل في زمانه فتحيي الأفعال الايجابية التي تؤهل زمانه للحياة كما أهلته ذات يوم:
أعيدي حديث الأمس ملهمتي الوجدى -- أعيدي بقاياه سأقــرأها وردا
أعيدي من السبع الشداد مثابتـــي -- حديثا بحبها نديا ولا أنــدى
إليك سبيلي والمسالك وعــــرة -- ودولتي الآهات تفدي ولا تفدى

وعند نور الدين درويش نلمس هذا النداء الذي يبحث فيه عن البطل المفقود الذي يريده أن يتجدد في زمن جفت فيه البطولة، إنه يجهد نفسه في سبيل البحث عن هذا المفقود (الضائع في ظل الاحداث، فهو يناديه ويجري وراءه، وهو مســافر نحوه أبدا في اليقظة والمنام مهما كلفه ذلك السفر من عذاب)، يقول:)
ياأيها البطل المفقود في الظلم -- ياراحلا في المدى ياغصة بدمي
ليلاك حلم وكابوس يعذبنـا --  ماذا سيحدث لو عشنا بلا حلم

ومع البطل المفقود يأتي النداء بحثا عن المقدس المفقود:
أناديك في صمتة الليل حين أحن    
أناديك من شرفة الذكريات
ومن صور خبأتها السنون
أناديك

وفي ظل هذا الكم الوافر من النداء تتراكم المضامين وتتسع لتشمل مساحات إرثية لا حصر لها، حين نقرأ في ظلها العودة إلى عمق التاريخ المؤيد بالنبع الصافي (الإسلام):
شرقية الحزن في روعي وفي كبـدي -- نفثت نبرته الحرى بما التفعا
 شرقية الرفض من عينيك من ملحمتي -- ومن روحي شب الرفض واتسعا
والشرق شرق فلا أرض تنازعـه -- فيك الغضارة والإشراق واللمعـا

والملاحظة في قصائد النداء هذه أنها تتشكل في إطار المنادى الخاص، أو المشكل في ظل سمات حضارية خاصة، بخلاف ما كان سائدا عند الشعراء السابقين، ففي هذه القصائد تغيب أسماء معادلة مثل( لوركا وهوشمينه، وتشيغيفارا...) وغيرها من الاسماء التي تشكلت في ظل وعي خاص مؤدلج، وهو الوعي الذي صار مدانا بلغة صريحـة مكشوفة عند جيل الثمانينيات، يقول الشاعر صالح سويعد:
أشقانا الهم الأحمر
ضاع الوتر الغالي
وحدائقنا ضاعت
ضعنا
هل لي فيك الآن أياوطني
نفس أخضر

وأخيرا فإن قصائد النداء هذه إنما تبلغ عندهم درجة كبيرة من البحث، فهم لا شيء بدون هذا المنادى الإيجابي المكثف الضامن للديمومة والاستمرار.

- الفئة الثانية: وفيها تأتلق مجموعة من القصائد التي حاول أصحابها ان يتجاوزوا مرحلة الانفعال المحكوم بالآنية، فكتبوا قصائد ذات بعد وطني إسلامي عميق، وهو البعد الذي يتيح لهم أن يشركوا القاريء في عالمهم الخاص الذي يتكون تدريجيا وفق التجربة الشعرية المشكلة في ظل الوعي، المؤيد بالكينونة، او الذات.

ونشير فيما يلي إلى بعض المقاطع الشعرية التي تزدحم فيها صور الوعي المؤيدة بالفعل المتوتر الذي يلغي زمن الادلجة المتناقضة، ويبرز الماضي والمستقبل كتشكيل زماني متجدد ضامن لاستمرارية الحياة، هكذا يؤلف عبد الله عيسى قصيدته (أطفال الحجر):
لك المجد طفلا يضم إلى
صدره باقة من حجر
ويزرع في يأسنا الأمنيات
وفي ليلنا نقطة من شعاع
وفي ذلنا كبرياء الفتوح
وفي حزننا أغنيات القطاع
وفي صمتنا صرخة الفاتحين
يمرون نحو الجنان زمر

في المقطع يبرز الموروث الإيجابي بكبريائه ليلغي فاعلية اللاوعي، أو الفعل العابث الخاضع لثقافة الآخر، ويحيي المشاهد الحضارية الواعية التي تبرز في المقطع حاملة لجزئيات الحياة، هكذا تتشكل بدايات النص الواعي الرافض المجسد لسلطة الذات.

والسلطة هذه نقرأها عند نورالدين درويش في إطار معادل ملح في قصيدته (الصورة المصطفاة):
قادم من بلادي القديمة
من عمق أعماق صورتك المصطفاة
سأمضي
وتمضي معي الأغنيات
سأمضي إلى حيث يسلبني شعرك السودوي
إلى حيث ألقاك في زيك العربي
إليك إلى حيث لا تعتريني الظنون

ونختم بمقطع من قصيدة (لم تيأسين؟) للشاعر صالح سويعد التي تمثل الإصرار على البحث والتجاوز للوصول إلى عالم يضيء الوجود، وفي المقطع صورتان تتحرك إحداهما في إطار الموت الذي حل بالجزائر، وتأتي الأخرى متفائلة محطمة لزمن اللاوعي، ومجسدة للحياة، أما الصورة الأولى فتأتي هـكذا
قد عشعش الهم الكبير على الشذى
وتقوست أشعارنا والياسمين
وتكدست في وجهنا
كل التجاعيد القديمة والحديثة والأنا
أواه والجرب اللعين
حتى المآذن والمدائن والحناجر
والأنين

وتأتي الصورة الثانية في قوله:
لم تيأسين؟
مازال عندي جرعة من أكسوجين
هي وحدها
تكفي النسائم والحمائم
والبنين
فبأي آلاء الصباح تكذبين
آه ونطلع من هنا
أنشودة للخافقين

وأخيرا فإن هؤلاء الشعراء الشباب وإن ضعف فيهم الفن الذي يمثل البداية إلا اننا نعتبرهم المجسدين للبحث عن الإيجابي الذي لا تكون الحياة إلا به ولا يكون كل ذلك إلا في ظل الذات الممتلئة بالموروث الإيجابي والمتداخلة مع الحداثي المفيد الخاضع لمتغيرات حضارية وفنية واعية.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال