صبغة الرؤى.. الانتقاد الديني للتراث والتهكم على الأفكار. المقارنة ما بين الإيمان والكفر والبيع والشراء للأرواح. حكاية حقيقة الشرق

في فصل (صبغة الرؤى) يحدد الأستاذ حسن حميد دعوته إلى القيام بمراجعة شاملة لكل ما وردنا من الغرب، ثم يبدأ بمراجعته النقدية لرواية سرفانتس (دون كيشوت) التي صُنّفت ضمن أهم أربعة أعمال عرفتها البشرية وهي:‏ (الكوميديا الإلهية) لدانتي، و(فاوست) لغوته، و (ألف ليلة وليلة)، و (دون كيشوت) لسرفانتس.

ومن الملفت أنّ الأستاذ حسن حميد صرّح بتحفظه إزاءها وتشككه فيها، فعدّ الأول منها (كتاباً انتقادياً للتراث الديني وفيه من التهكم على الأفكار، والإعلام، ما فيه)، وعدّ الثاني (مقارنة ما بين الإيمان والكفر، والبيع والشراء للأرواح)، واعتبر الثالث (كتاباً يحكي حقيقة الشرق المكونة... وفقاً لمنطقهم، من العشق وشذوذاته وعالم العبيد والجواري والخوارق والمعجزات ذات اللبوس المخيل أو الفنتازي) أما الرابع فما يزال (يحظى بالتقدير والكلام المدائحي لأكثر من سبب في بلاد الغرب) فضلاً عما يضمره من سخرية مُرة (تجاه كل ما هو عربي ومسلم في آن).

ثم وعلى منهجيته نفسها يتناول سيرة سرفانتس الذاتية فيعرفنا به منذ ولادته عام 1547، وهو ابن لطبيب جرّاح، لم يكن سلوكه يليق به كمواطن إسباني فقد قتل خصمه بطريقة غير نبيلة بعد أن أخلّ بشروط المبارزة فأصدر القاضي أمراً قضائياً باحتجازه وقطع يده فولّى هارباً إلى إيطاليا. وفي إيطاليا تعلم لغتها وأجادها وفتن بالحياة هناك.

ولما التحق بإحدى الفرق العسكرية الموجودة هناك عام 1568 مشاركاً في إحدى معاركها البحرية ضد الأتراك أبدى بسالة كبيرة كانت نتيجتها فقده لكفّه اليسرى بعد أن كاد يفقد كفه اليمنى في إسبانيا.

وقد استطاع العرب والأتراك أسره في إحدى المعارك وزجّه في أحد سجون الأتراك في الجزائر.
وقد عومل بقسوة طوال مدة حجزه هناك، عاد إلى إسبانيا وعمل فيها محصلاً للضرائب لمدة وجيزة.

ومنذ عام 1583 عُرف ككاتب حين كتب قصته الرعوية (غالطية) ولم ينشرها إلاّ عام 1585.
أما مسرحه فقد اتفق نقاد أدبه أنه ضعيف ومهلهل لا يعطي اعتباراً للحبكة، أما (دون كيشوت) التي أرادها سرفانتس مرآة لعصره وللعصور السابقة فقد أقرّ الأستاذ حسن أنّ سرفانتس [ألّّف كتابه (دون كيشوت) من أجل وقف تكاثر قصص الفروسية الزائفة التي تجعل من القوة العادية أفعالاً أسطورية خارقة، ومن الواقع خيالاً أو محض خيال. ومن الأحداث الفعلية مركبة يلفها الكذب لفاً، ومن الأقوال خرافات لا تصدق إطلاقاً].

وعلى العموم يمكن إدراجها أهم محطات سيرته الذاتية على وفق التسلسل الآتي:‏
مبارزة يخلّ بشروطها فيقتل الخصم ـ هروب إلى إيطاليا تخلصاً من حكم قضائي ـ خوض معركة ضد الأتراك يخسر فيها كفه اليسرى ـ دخول إلى سجن تركي في الجزائر ـ رجوع إلى إسبانيا ـ ولوج إلى العمل الضرائبي ـ فصل من العمل وعودة ثانية إليه ثم طلب إقالة منه ـ زواج غير شرعي ـ إنجاب ابنة غير شرعية ـ تفاقم الفقر والفاقة عليه ـ موت أخيه الميسور وتركه ديوناً ثقيلة ـ دخول إلى السجن عدة مرات ـ تهمة بقتل عشيق ابنته.‏

لقد كان لهذه الأحداث تأثيرها الكبير في سلوكه وفي كتاباته ويمكن القول أنها شكّلت بمجملها مصدراً هاماً من مصادر كتاباته.‏

بعد هذا يتناول الأستاذ حسن رواية (دون كيشوت) بالعرض والتحليل والتعليق والوصف يقول عنها واصفاً:‏
[إنّ رواية (دون كيشوت) صارت سفراً من أسفار الأدب العالمي وجزءاً مهماً من تاريخية هذا الأدب أيضاً، فقد باتت اليوم معروفة في جميع أنحاء العالم، وبكل لغاته، إذ يندر أن توجد لغة عالمية حية معروفة لم تُترجم الرواية إليها مرات عديدة وقد أفاد منها الرسامون، والسينمائيون، والفنانون على نحو العموم، والأدباء، والشعراء، والتراثيون، والإنثروبولوجيون، والمؤرخون، والعلماء، والعسكريون... الخ]‏.

وعلى الرغم من هذا الوصف المنصف للرواية إلاّ أنّ الأستاذ حسن، كما هو ديدنه في المراجعات النقدية السابقة، يعود ثانية، لينبهنا إلى أنّ هذه الرواية كعمل سُحِرنا به دون أن نتأمل حقيقة رؤيته اتجاه الحضارة العربية والإسلامية لا تخلو من الأكاذيب والتحامل على الشخصية العربية واتهامها بالكذب والكفر واللاأخلاق والسوقية... الخ..

إنّ هذه الاتهامات تشكّل، على حد زعم الأستاذ حسن، جوهر هذه الرواية ولكنها على الرغم من ذلك لا تقلل من أهميتها [كرواية عالمية شديدة الغنى الفني، والمعاني العددية لما حفلت به من توجهات إنسانية على غاية من الرفعة والسمو]‏.

ويُعتقد أنّ سرفانتس يوقف كل تلك الإنسانية وكل ذلك السمو وتلك الرفعة على الإسبان دون غيرهم وهذا أمر مقبول ومبرر فسرفانتس ينحاز بشكل طبيعي لأبناء جلدته ووطنه على الرغم من الأهوال والصعاب والكوارث التي حدثت له في ذلك الوطن فضلاً عن معاناته من قسوة السجن والسجّانين العرب في سجن الجزائر.

ولعلنا نتفق جميعاً أنّ السجّانين كانوا قساة وظالمين إلى أبعد الحدود ولا ينفي عنهم هذه القسوة أو هذا الظلم كونهم عرباً أو مسلمين.

ويخلص الأستاذ حسن إلى تثبيت يقينه في أنها (أي الرواية) العمل الأقل عدائية للعرب من بين العديد من الأعمال الإسبانية إذ يقول:‏
[ولا أشكّ إطلاقاً أنّ (دون كيشوت) كعمل أدبي كان من بين أقل المؤلفات الإسبانية التي ظهرت آنذاك عدائية للعرب]‏.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال