للشعر لغة خاصة.. الضرورة الشعرية ليست خروجا عن اللغة وإن خرجت عن القواعد النحوية

 خلاصة هذا الرأي أنه ينبغي أن يكون لدينا نوعان من القواعد: نوع يختص بالشعر، والآخر يختص بالنثر، وليس من الصواب أن نعمد إلى قواعد قد وضعت لمنثور الكلام فنجعلها حكما على ما قاله الشعراء.

ومآل هذا الرأي إلى أنه لاضرورة، وأن كل ماورد في الشعر مما يخالف القواعد هو لغة خاصة بالشعر، وذلك لأن (للشعر لغته التي تتميز يخصائص معينة،... إذ أن الظروف النفسية التي يُنتَجُ فيها الشعر تحتاج إلى لون خاص من التعبير الملائم لها، بحيث لا يصبح الشعر حينئذٍ ممثلا للبيئة اللغوية تمثيلا صحيحا، بل يكون ممثلا لمستوى معين هو مستوى الشعر)[1]

وحين نسأل: ماهي هذه الخصائص التي تتميز بها لغة الشعر؟ نجد من يقول: (إن لغة الشعر انفعالية،... وما دامت لغة الشعر انفعالية فليس من الممكن وضع قواعد صارمة لها تتسم بالاطراد والاستمرار)![2].

ويقول إبراهيم أنيس في معرض حملته الشعواء على النحــــــاة في كتابه (من أسرار اللغة )[3] يقول: (وقد كثر حديثهم عن تلك الضرورة الشعرية التي أعدها وصمة وصموا بها الشعر العربي عن حسن نية منهم، ولست أعرف أمة من الأمم تصف شعرها بمثل هذا الوصف... وما كان أغناهم عن مثل هذا لو أنهم بحثوا الشعر وحده، وخصوه ببعض الأحكام التي يجب أن تترك للشعراء وحدهم، يتخذون منها مايشاءون، ويهملون ما يشـاءون) و(أما الضرورات المباحة فقد جعلوها بمثابة الرخص الشعرية، التي تبرعوا لنا بها وأجازوها لنا، كأنما كانت اللغة ملكا لهم وحدهم يعطون منها ما يشاءون، ويمنعون منها ما يشاءون)!.

وهذا الرأي ـ رغم وجاهته ـ عليه بعض الملاحظات:

1- الخلاف بين هذا الرأي ورأي جمهور النحاة هو في الواقع خلاف لفظي لا أكثر ، فكلا الرأيين يبيح للشاعر في شعره عددا من الاستعمالات وأنماطا من التركيبات لاتجوز في غير الشعر، وغاية مافي الأمر أن النحاة الأولين ـ رحمهم الله ـ سموا هذه الاستعمالات والأنماط (ضرورة) وسماها هؤلاء ( لغة الشعر)، إلا أن النحاة ـ رحمهم الله ـ حين قـبَّحوا بعض الضرورات، وحدوا من حرية الشاعر ـ إن صح التعبير ـ في هذا الأنماط والاستعمالات أرادوا بذلك ضبط اللغة وصونها لئلا تشتط مُبْعِدةً عن أصولها.

2- طريقة النحاة في تسمية هذه المخالفات (ضرورة) أوفق من محاولة إيجاد نحو جديد خاص بالشعر فـ (لسنا بحاجة إلى هذا العناء حيث نجعل لأنفسنا نوعين من القواعد: أحدهما خاص بالشعر، والآخر خاص بالنثر مما لا نسمع عنه في قواعد أي لغة أخرى)[4].

3- قد أقر القائلون بهذا الرأي بأن محاولة استقصاء معالم هذه اللغة الشعرية هي أشبه شيء بالمستحيل الممتنع، لأنه يحتاج إلى تتبع الظواهر اللغوية في شعر القدماء والمحدثين في جميع عصور الأدب، بعد أن يتحدد لدى الباحث أولا نظام النثر في كل عصوره وأساليبــه أيضــــاً![5]، وإذا كان ذلك كذلك فما جدوى الدعوة إلى نحو جديد أو لغة جديدة مجهولة المعالم؟

4- من القائلين بهذا الرأي من يرى أن أي ظاهرة تشيع في شعر الشعراء، فإنها تُصوب وتعد من خصائص لغة الشعر[6]، وأقول: إن أراد بالشعراء شعراء الاحتجاج فهذا مافعله النحاة، إلا في بضعة مواطن لم يحالفهم فيها التوفيق، وإن أراد عموم الشعراء في كل عصر فهذا لعمري ضياع اللغة وذهاب ريحها.

5- النحو العربي قائم في معظمه على الشعر، وهاهي الشواهد الشعرية تملأ كتب النحاة، ومعنى ذلك أنه لوقال قائل: إن هذا النحو يمثل خصائص الشعر التركيبية أصدق تمثيل لكان صادقا إلى حد كبير.

6- لو سلمنا أن الشاعر إبان تجربته الشعرية يغيب عن وعيه ، وتتزاحم المعاني في ذهنه (فتزاحمت الألفاظ، واختلط بعضها ببعض، بينما الشاعر في شغل عنها، وقد تملكته العاطفة، وسيطرت عليه الفكرة، فلم يعبأ بنظام الكلمات على النحو المألوف للناس)[7] لو سلمنا بذلك ـ وهو قد يكون حقا ـ فما يمنع الشاعر إذا أفاق من غشيته، وآب إلى دنيا الناس أن يعود فيهذب كلامه ليوافق كلام الناس؟

الضرورة ليست خروجا عن اللغة، وإن خرجت عن القواعد النحوية:
وهذا مفهوم مبني على نظرية دي سوسير في التفريق بين اللغة (LANGUS) والكـلام (PAROLE)، فاللغة نظام باطن يكشف عن نفسه في الكلام الذي هو كل حدث لغوي يتناوله أبناء اللغة، وعلى هذا فكل ما يقوله أبناء اللغة فهو من اللغة لاينفك عنها بحال، ذلك لأن كل لغة تحيط أبناءها بدائرة سحرية لاسبيل إلى الخروج عنها.[8]

ومعنى هذا الكلام ببساطة أنه ليس في اللغة صواب ولا خطأ، وأن كل مايلفظه أبناء اللغة ـ ومنهم الشعراء ـ صواب محض ينبغي تلقيه بالقبول، وليس أمام اللغوي إلا أن يصف ويحلل.

ومثل هذه النظرة ـ التي يروج لها علم اللغة الحديث ـ تهدم بنيان العلوم العربية من أساسه، وتلقي بكتب التحريف والتصحيف في البحر، وتلغي حركة التصحيح اللغوي التي جاهدت مئات السنين للحفاظ على العربية.

ولئن وافقت هذه النظرة اللغات الغربية التي لا ترتبط بكتاب، فإنها لاتوافق أبدا لغتنا الشريفة التي ما قامت علومها إلا خدمة للقرآن العظيم، ونوشك إن نحن وافقنا على هذه النظرة للغة أن نصير إلى لغة غريبة لاتمت إلى لغة القرآن والحديث بصلة.

[1] الضرورة الشعرية 539.
[2] الضرورة الشعرية 550 ـ 551.
[3] من أسرار اللغة 343 ـ 344.
[4] الجاهلي 67.
[5] الضرورة الشعرية 552.
[6] من أسرار اللغة 343.
[7] من أسرار اللغة 347.
[8] الضرائر اللغوية 62 ـ 64.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال