نشأة الشعر الحر.. بداية الحركة في العراق ثم الزحف لتغمر الوطن العربي كله

تقول نازك الملائكة " كانت بداية حركة الشعر الحر سنة 1947م في العراق، ومن العراق، بل من بغداد نفسها، وزحفت هذه الحركة وامتدت حتى غمرت الوطن العربي كله، وكادت بسبب الذين استجابوا لها، تجرف أساليب شعرنا الأخرى جميعا، وكانت أولى قصيدة حرة الوزن تنشر قصيدتي المعنونة "الكوليرا"، تم قصيدة "هل كان حبا " لبدر شاكر السياب من ديوانه أزهار ذابلة ن وكلا القصيدتين نشرتا في عام 1947 م.
عير أن نازك وفي مقدمة كتابها "قضايا الشعر المعاصر" الذي نقلنا منه النص السابق ، تعترف بأن بدايات الشعر الحر كانت قبل عام 1947م فتقول: "في عام 1962 م صدر كتابي هذا وفيه حكمت بأن الشعر الحر قد طلع من العراق، ومنه زحف إلى أقطار الوطن العربي، ولم أكن يوم قررت هذا الحكم أدري أن هناك شعرا حرا قد نظم في العالم العربي قبل سنة 1947م، سنة نظمي لقصيدة " الكوليرا".
ثم فوجئت بعد ذلك بأن هناك قصائد حرة معدودة قد ظهرت في المجلات الأدبية والكتب منذ سنة 1932م، وهو أمر عرفته من كتابات الباحثين والمعلقين، لنني لم أقرأ بعد تلك القصائد من مصادرها، وإذا بأسماء غير قليلة ترد في هذا المجال منها اسم على أحمد باكثير، ومحمد فريد أبي حديد، ومحمود حسن إسماعيل، وعرار شاعر الأردن، ولويس عوض وسواهم.
وعبثا تحاول نازك بعد أن ايثقنت أن أوليات الشعر الحر لم تكن لها ، وذلك باعترافها الذي دوناه سابقا ـ أن تجعل موطن الشعر الحر هو العراق ـ وإن كان ذلك لا يؤثر لا من قريب ولا من بعيد على نشأة أي عمل أدبي أن يكون من العراق، أو من مصر، أو من الحجاز، أو غيرها من أقطار الوطن العربي، وإنما الغرض هو تصحيح مسار النشأة وتاريخها ليس غير ـ فتقول نازك "ثم أن الباحث الدكتور أحمد مطلوب قد أورد في كتابه النقد الأدبي الحديث في العراق قصيدة من الشعر الحر عنوانها "بعد موتي" نشرتها جريدة العراق ببغداد سنة 1921م تحت عنوان النظم المطلق، وفي تلك السن المبكرة من تاريخ الشعر الحر لك يجرؤ الشاعر على إعلان اسمه ، وإنما وقع (ب ن)" ثم تذكر نازك جزءا من القصيدة ، وتعقب قائلة : "والظاهر أن هذا أقدم نص من الشعر الحر "، وقد أحسنت نازك عندما قالت (والظاهر أن هذا أقدم نص من الشعر الحر، لأنها حينئذ لم تجزم بأقدمية النص، وبالفعل أثبتت الدراسات الأدبية بأن هذا النص لم يكن أقدم نص، وإنما هناك ما هو أقدم منه إن لم يكن في نفس الحقبة الزمنية.
 وسوف نتحدث عن ذلك النص الشعري في موضعه عند حديثنا عن الشعر الحر عن الشعراء السعوديين إن شاء الله .
ثم تحاول نازك مرة أخرى نفي تلك البدايات ن فتطرح سؤالا تبرز من خلال إجابته أن تلك البدايات غير موفقة، أو لم تخضع لشروط ومواصفات معينة سنعرفها فيما بعد ، فتقول: "هل نستطيع أن نحكم بأن حركة الشعر الحر بدأت في العراق سنة 1921م، أو أنها في مصر سنة 1923م.
وبالفعل أن ما توصلت إليه نازك من خلال إجابتها بنفسها على سؤالها المطروح آنفا يؤكد من جانبها نفي الحكم عن بدايات تلك الحركة، لأنها لم تنطبق عليها الشروط التي رسمتها لفاعلية تلك الأوليات، ومن هنا احتفظت نازك لنفسها بفضل السبق في ولادة الشعر الحر عام 1947م، وكأن ما ولد قبل ذلك كان خداجا، ولم يستوف مدة الحمل التي حددتها السيدة نازك لمثل هذه البدايات الفنية.
أما الشروط التي فرضتها لتطبيقها على تلك الأوليات هي: (بتصرف)
1ـ أن يكون ناظم القصيدة واعيا إلى أنه قد استحدث بقصيدته أسلوبا وزنيا جديدا.
2ـ أن يقدم الشاعر قصيدته تلك أو قصائده مصحوبة بدعوة إلى الشعراء يدعوهم فيها إلى استعمال هذا اللون في جرأة وثقة. 
3ـ أن تستثير دعوته صدى بعيدا لدى النقاد والقراء.
4ـ أن يستجيب الشعراء للدعوة ، ويبدؤوا فورا باستعمال اللون الجديد.
وبتلك الشروط الآنفة تنفي نازك البدايات الأولى للشعر الحر سواء أكانت في العراق سنة 1921م أو في مصر سنة 1932م، لأنها لم تنطبق على تلك الأعمال الشعرية ، والتي تعتبر الإرهاصات الأولى للشعر الحر.
كما أن نازك بهذه الشروط كأنها نصبت نفسها حاميا ومقننا للشعر الحر، فما تجاوز منه هذه الشروط التي لا تمت لفنيات القصيدة بصلة لا يعد منه.
وإذا كانت هذه الشروط التي وضعتها نازك باختيارها الشخصي لم تنطبق على الأعمال التي أشارت إليها بنفسها ن هل يعني هذا أن نسلم أن بدايات الشعر الحر لك يكن لها وجود قبل عام 1947م، وهو التاريخ الذي حددت فيه نازك البداية الفعلية لهذا اللون من الشعر؟
إن الإجابة على هذا السؤال ـ في رأيي ـ تحتاج إلى وقفة متأنية، لأن نازك عندما قررت تلك البداية لم تطلع على الأعمال الشعرية الأخرى لشعراء آخرين غير التي اطلعت عليها في الشعر الحر قبل عام 1947م، ولها في ذلك عذر، لأنه حينئذ ليس من اليسير على الإنسان أن يكون على علم كامل بكل ما أنتجه الشعراء، أو الأدباء في حقبة زمنية ليست بالقصيرة، وعلى اتساع أقطار العالم العربي، في فترة كانت وسائل الإعلام والنشر أعجز مما أن تؤدي مهمتها بنجاح، وإن كان الأمر يتطلب بعدم الجزم في مثل هذه الأحوال ـ بأن الساحة الأدبية خلو تماما من أمثال هذه الأعمال الأدبية.
وهذا ما وقعت فيه نازك عندما ظنت أنه لم يسبقها إلى هذا العمل أحد من الشعراء، فأصدرت حكمها وأطلقته، وقررت أن البدايات الفعلية للشعر الحر كانت في العراق ن ومن بغداد بالذات عام 1947 م.
وبعد هذا العرض المفصل لنشأة الشعر الحر، إن ما نريد الوصول إليه أن السيدة نازك الملائكة قد حكمت وأطلقت الحكم وعممته دون ترو منها، لأن هناك بدايات غير التي أشارت إليها أيضا، وإن كانت هذه البدايات لم تحفل باهتمامها، أو لم تنطبق عليها شروطها، فإن هذه البدايات ربما تكون ذا شأن في تحديد نشأة الشعر الحر تحديدا فعليا، ويحسم الموقف، على الرغم بأننا لا نريد أن نجزم بأنها قد تكون البداية الأولى أيضا فنطلق الحكم ونعممه، ونقع فيما وقعت فيه نازك، لن التاريخ ربما يثبت غير ذلك فيما بعد.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال