التراث والحداثة وإشكالية الوعي الغائب.. تداخل الشعر مع الفعل الثقافي والحضاري. الشرق مؤثر حيويا في اتجاه الأدب الجزائري

الموضوع- كما نقرأ- ذو ثلاثية معقدة أساسها التراث الذي يعني الماضي بعناصره الفكرية والثقافية والاجتماعية، وبخصوصياته الحضارية، كما يشمل الحداثة التي تصب في إطار الحاضر الذي نصنعه وفق أبنية المفروض فيها أن تكون وفق خصوصيات منفتحة إيجاب العالم.

ويأتي العنصر الثالث الذي نتحدث فيه عن الشعر في إطار تشكيل مرجعي ذي ثنائية ضدية كتب فيها صنف من الشعراء المؤيدين بوعي أساسه الخصوصية الحضارية التي جعلتهم يتوفرون على توترات حضارية، فهم يبحثون بشعرهم، وهم يسألون ويرفضون وهم الطامحون إلى تشكيل قصيدة شعرية تحكمها ثقافة الإيجاب التي تؤهلهم لأن يكونوا شعراء عصرهم وبيئتهم، وكل منطلق فكري يساهم في بناء كينونتهم.

وكتب صنف آخر من الشعراء في إطار ثقافة الصدى التي أجبرتهم على الانخراط في عالم الآخرين الذي أملى عليهم بعد استقلال الجزائر- بخاصة - أن يكونوا أرقاما ثانوية في عالم الإبداع.

والثلاثية أصل كبير في مشكلتنا الثقافية لا في الجزائر وحدها، بل هي عامة بنيتها العالم العربي الذي توكأت مرجعيته الثقافية في أغلب الأحيان على مفاجآت الغرب التي أصابتها بتشويه ناتج عن خلل في البناء الذي ولد نوعا من الانشطارية المنهجية التي أثرت سلبا في المبدع والمتلقي على السواء، كما ساهم في التداخل مع مفاهيم ذات خصوصية غريبة انطلاقا من وسائل خاطئة بدايتها المناهج المتعلقة بالبحث، والتي اعتمدت في ثقافتنا بأساليب غير علمية منها النقل المنبهر المؤيد بغياب النقد والمراجعة.

بهذه الثلاثية ندخل إلى الموضوع الذي نعتبر طرحه مشروعا وخاصة عندما يتعلق الأمر بشعر ذي خصوصيات وطنية، أو هكذا يجب أن يكون، ذلك لأن الشعر هنا قد تداخل مع الفعل الثقافي والحضاري في إطار جدلي أساسه المجتمع الجزائري الفتي الذي يخوض تجارب ضخمة لبداية حياته، وهي التجارب التي لم تقبل- في أغلب الأحيان- أن يكون الإبداع إلا في ظلها.

وإذا كان الأدب العربي في مشرق هذه الأمة قد نال حظه من الدراسات المنبثقة أصلا من الإشكاليات المذكورة، فإننا نعتقد أن أسئلة الإشكاليات في الجزائر ما تزال تطرح باستحياء إن لم نقل أنها منعدمة، وبخاصة إذا تعلق الأمر بالموروث والحديث في علاقتهما بالمبدع، والأسباب كثيرة نوجز بعضها في الآتي:

1- إن المبدع أو الشاعر بخاصة غالبا ما كان مستقبلا متأثرا، وأهل التأثير هم المشارقة وبدايات الشعر الجزائري الحديث تؤكد ذلك حين غدت مصر- مثلا- بشاعريها الكبيرين ](أحمد شوقي ت 1932)، (وحافظ ابراهيم ت 1932)[ قبلة للشعراء الجزائريين، يقول أحمد سحنون(1907…)
لي إلى مصر هوى ياليتني -- طائر يصدح في أفنانكم
فأرى موطن شوقي وأرى -- نيله الموحي إلى حسانكم
نحن في بلداننا في غربة -- فـتـشوقنا إلى بلـدانكم

ويرثي محمد العيد(1904 / 1979م) شاعر النيل حافظ إبراهيم بقوله:
قم عز مصر وعز الشرق أقطارا -- ففحل مصر خبا كالنجم وانهارا
خطب جرى في ضفاف النيل زلزلة -- وثار ملء جواء الشرق إعصارا
يا ويح مصر خلت من(حافظ)وخلا -- في الهامدين كأنه لم يثوها دارا

وكذلك فعل محمد العيد مع أحمد شوقي في قصيدته " إلى روح شوقي" يقول:
عجبـا للدار كيف تدور؟ -- نكب الشعر بها والشعور
فقد الشعرأبا الشعر(شوقي) -- فطغا الويل به والثبـور
أيهــا الباكي بمأتم شوقي -- أرأيت النجم كيف يغور

 وضروري أن نشير هنا إلى أن إعجاب الشعراء الجزائريين بشوقي وحافظ لم يكن لأي سبب إلا للاحتفاء بشعرهما الذي يستلهم الموروث الماجد للعربية والإسلام، يقول عبد الحميد بن باديس (ت 1940م): (…إننا  باحتفالنا  بذكرى  شاعري العربية العظيمين شوقي وحافظ نكرم سبعين مليونا من أبناء العربية الذين يعدون العربية لغتهم الدينية ونكرم الأمم المتمدنة جمعاء التي يعرف أكابر علمائها المنصفين مزية اللغة العربية التاريخية على العلم والمدنية).

ومع حافظ وشوقي نجد شعراء المهجر (ويمكن القول بأن ( الشهاب) في العشرينيات والثلاثينيات كانت مصدرا هاما لمن يرغب في الاطلاع على الأدب المهجري في الجزائر، فقد كانت تنشر مقالات وقصائد لأكبر أدباء العرب وأشهرهم بأمريكا من أمثال جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبي ماضي، ورشيد سليم الخوري...) وتبدو العناية بأدب جبران خليل جبران وشعر إيليا أبي ماضي والقروي أكثر وضوحا إذ أقبلوا على إنتاجهم الأدبي إقبالا شديدا لما امتاز به هؤلاء من تفرد وجموح وثورة.

ويضاف إلى هذا ما قرأه الشعراء الجزائريون عن جماعة "أبوللو" إذ كان إنتاجها معروفا لدى الجزائريين وتأثيرها كان واضحا في أشعارهم.

وبعد الحرب العالمية الثانية جاء التأثير الجديد الذي أحدثته القصيدة العربية المعاصرة بقيادة نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي والسياب وصلاح عبد الصبور... ويمكننا أن نقرأ هذا التأثير في قصائد الشاعر الجزائري (أبو القاسم سعد الله) الذي يحدثنا عن ذلك بقوله: (وكنت أتردد على ادارة مجلة الرسالة الجديدة التي كان يختلف اليها عدد من الأدباء أمثال عبد الرحمن الخميسي، وعبد الرحمن الشرقاوي، ومحمود أمين العالم، كما كنت ألتقي في مؤتمرات ونوادي الطلبة العرب بالأدباء الشباب المجددين أمثال رجاء النقاش وأحمد عبد المعطي حجازي  وصلاح عبد الصبور، والفيتوري، وغيرهم).

وشهادة التأثر هذه واضحة في شعر سعد الله إذ نقرأها في مثل قوله:
وظلت حياتي تجوس الرمم
وتبحث عن أصلها في العدم
وتدعو الرؤى
وتستهدف الضوء عبر الخلايا…
خلايا الحقبْ
…وبعد التعب
جنت حتفها لأن الوجود كثيف كثيف !
والأبيات لا تعدو أن تكون صورة لحيرة الذات المجسدة في البدايات الرومانسية للشعراء العرب المعاصرين ويمكننا أن نقرأها عند نازك الملائكة في قصيدتها "أنا" التي تبدأها بالسؤال وتنهيها بالحيرة والفشل، تقول:
والذات تسأل من أنا
أنا مثلها حيرى أحدق في ظلام
لا شيء يمنحني السلام
أبقى أسائل والجواب
سيظل يحجبه سراب
وأظل أحسبه دنا
فإذا وصلت إليه ذاب
وخبا وغاب

ولم يقف هذا التأثير الواضح بالمشرق عند زمن الثورة التحريرية (1954 – 1962) وماقبلها بل تعداه ليشمل زمن الاستقلال حين تداخل بعض الشعراء مع جماعة الحداثة كما سنرى.

وخلاصة هذا التأثير تقودنا إلى القول: إن القصيدة الجزائرية- في أغلبها- تابعة لأختها المشرقية، نابعة منها، مستلهمة الخصب والنماء من فنها (فقد كانت كل خطوة تحررية أو ثورة إصلاحية أو دعوة أدبية يصل صداها بسرعة مذهلة إلى الجزائر وتتفاعل مع الجيل الذي يستقبلها مرحبا…وهكذا  كان الشرق  مؤثرا  حيويا في اتجاه الأدب الجزائري).

2- قلة الاهتمام بالتراث، بل وقلة الوعي به، ذلك لأننا لا نعني بالتراث الإقبال الكمي عليه، بل المهم أن نقرأه قراءة واعية ترشدنا إلى الجانب الحي فيه، وتبعدنا عن الميت منه، وعدم الاهتمام هذا إنما يبدو من خلال قراءتنا لمجموعة من الأشعار التي تترجم عن عدم القدرة على استيعاب التراث، وللأمانة العلمية فإن عدم الاهتمام بالتراث إنما يعد محنة المثقف الجزائري الشاب بعامة، ولعل مرد ذلك إلى العامل الثقافي المبني على مناهج لا تهتم كثيرا بهذا المجال.

3- ضغط الحداثة المؤيدة بأدلجة شرسة خضع لها المثقف والمبدع على السواء حين صار الكثير منهم ناطقا باسمها خاضعا لها بدلا من أن ينقاد إلى صوت ضميره الذي يجعله مثقفا حرا متميزا، وقد تم كل ذلك في ظل وعي غائب أجج أقلام كثير من الشعراء المندفعين المتأثرين، فكتبوا قصائد نتشوية(نسبة إلى نيتشة 1844-1900) قبل أن تكون أدونيسية(نسبة إلى أدونيس الشاعر العربي)، وهي القصائد التي حملت مضامين فيها الرفض والشتم والتجريح والتشويه للموروث الإيجابي.

في ظل هذه الأسباب جاءت رؤية الشاعر الجزائري المعاصر للتراث والحداثة، وهما الموضوعان اللذان سنحاول أن نعرضهما في ظل فهم جزائري تأثيري، وسنؤيد العرض بالأشعار الدالة على إشكالية الوعي بين الغياب والحضور، والخاضعة لتيارين من الشعراء المعاصرين كتب أحدهما في ظل وعي غائب وحاول الثاني أن يبدع في ظل البحث عن هذا الوعي الغائب.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال