نحو علم السرد.. تعميق المعرفة والوعي بالنظريات وبالمناهج التي تمكن من التقدم في القراءة النقدية للنصوص

تعرف النقاد والباحثون العرب إلى السرد في السبعينيات، وتشي مقالات وأبحاث كثيرة في الدوريات، مترجمة أو مؤلفة عن السرد، عن الإقبال الواسع على السرد في دراستهم ونقدهم.

وشهدت التسعينيات انفتاحاً أكبر لبحوث القصة والروية على علم السرد، وربما كان لكتاب «طرائق تحليل السرد الأدبي: دراسات» (1992) التأثير الأكبر في تنمية الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية.

ويمثل هذا الكتاب ذروة الاهتمام العربي بالمسألة المنهجية في أبعادها المعرفية النظرية والتحليلية لمنظري علم السرد، وبالاستناد إلى روادها ونصوصها الأصلية والتأسيسية.

وقد نفى عبد الحميد عقار باسم المترجمين أن يتعلق الأمر بترف فكري، أو بانسياق مع ما تذروه رياح «العوالم الأخرى»، لأن مثل هذا الاهتمام يترجم في الواقع، حاجة ماسة إلى تعميق المعرفة والوعي بالنظريات وبالمناهج التي تمكن من التقدم في القراءة النقدية للنصوص، ومن المساهمة في حل مشاكل التأويل وتصحيح القراءات التي تفتقد إلى الوجاهة أو إلى المصداقية»(1).‏

ثم حدد المدارات المشتركة بينها إجمالاً فيما يلي:‏
تنشغل هذه الدراسات بصناعة المفاهيم، وصياغتها بمستوى من الدقة والتحديد يبعد عنها الكثير من الالتباس والتداخل، مثلما تهتم كذلك باختبار مصداقية تلك المفاهيم في سياق التحليل النصي، ودون الاقتصار في ذلك على النصوص البسيطة، بل تتجاوزها إلى خطابات أكثر تعقيداً كالرواية مثلاً، وبمراعاة مقتضيات السياق الثقافي واللساني العام.‏

إن استلهام اللسانيات واعتمادها نموذجاً للتحليل، لم يحل دون التأكيد على محدودية هذا النموذج بالقياس إلى تعقد الخطاب السردي والأدبي منه بشكل خاص.‏
تخص طرائق التحليل ونماذجه المبلورة مجالات بحث بعينها: السرد الأدبي والروائي منه بشكل خاص.‏

وتقف في التحليل عند مستويات نصية لا تكاد تتجاوزها: مستوى الخطاب أو القصة في الغالب إذا ما تبنينا هذه الثنائية الشائعة.‏

وقد ضم الكتاب الأبحاث التالية:‏
- مدخل للتحليل البنيوي للسرد (رولان بارت، وكان ترجم إلى العربية من قبل أكثر من مرة).‏
- مقولات السرد الأدبي (تزفيتان تودروف).‏
- حدود السرد (جيرار جينيت).‏
- مقتضيات النص الأدبي (جاب ليننفلت).‏
- من لا يحكي الرواية (ولغ غانغ كايزير).‏
- الأسلوب السردي ونحو الخطاب المباشر وغير المباشر (آن بانفيلد).‏
- القارئ النموذجي (إمبرتو إيكو).‏
- بصدد التمييز بين الرواية والقصة (ميشيل رايمون).‏
- السيميائيات السردية: المكاسب والمشاريع (أ. ج. غريماس).‏
- من أجل سيميائية تعاقبية للرواية (فلاديمير كريزنسكي).‏

ثم انطلقوا إلى ترجمة النصوص الأساسية لعلماء السرد ومنظريه ونقاده، أمثال رولان بارت وتودوروف، فترجم لامبرتو ايكو عدة نصوص في الدوريات، وفي كتب مشتركة، غير أن الأهم هو ترجمة انطوان أبو زيد (لبنان) لكتابه «القارئ في الحكاية: التعاضد التأويلي في النصوص الحكائية» (1996).

ويعكس هذا الكتاب مدى التقعيد والتفريع الذي آلت إليه الاتجاهات الجديدة في نقد القصة والرواية، وذروته علم السرد، من أجل تقعيده وضبط منهجيته، حتى أن الناشر التمس العذر لمترجمه بالنظر إلى المشاق التي تكبدها بحثاً «عن التعبير واللفظ المناسبين، واستنباط المعاني، والمغامرة باستخدام مصطلحات واشتقاقات ليستطيع التعبير عما يريده عالم كامبرتو ايكو.
وقد اضطر أبو زيد أكثر من مرة لتغيير بعض المصطلحات والمفاهيم أثناء العمل على تنضيد الكتاب»(2).‏

وقد كان المترجم على بينة من الصعوبات التي يفرزها تطور علم السرد منهجياً ومصطلحياً، فعمد إلى وضع الكلمة بنصها الفرنسي إلى جانب النص في عمود خاص، مع العلم أن النص مكتوب بالإيطالية بالأصل، كما وضع فهرساً مشروحاً للمصطلحات في ختام كتابه، وعلى الرغم من ذلك كله، فإن قراءة هذا الكتاب تحتاج إلى معرفة معمقة بجذور علم السرد، في إنجازات الشكلانية الروسية واللسانيات والبنيوية وما أفضت إليه من اتجاهات نقدية، ولا سيما العلامية، وفي جهود ايكو السابقة، ولا سيما كتابه «نظرية في العلامية» Theory of Semiotics (1975).‏

وترجم عبد الرحمان أيوب (تونس) أول كتاب باللغة العربية لجيرار جينيت «مدخل لجامع النص» (1985)، ولكن كتابه الأهم في علم السرد هو «خطاب الحكاية: بحث في المنهج Figures III» (1972 بالفرنسية مقارناً بالأمريكية Narrative Discourse: An Essay in Method وظهرت ترجمته بالعربية الط2/ عام 1997)، وقد ترجمه محمد معتصم وعبد الجليل الأزدي وعمر حلمي (وتفيد المقدمة أن الطبعة الأولى ربما صدرت بالدار البيضاء عام 1994).

ولا يماري أحد، أن جينيت مارس، وما يزال، تأثيراً متعاظماً في انتشار الاتجاهات الجديدة لنقد القصة والرواية، بالإضافة إلى بارت وتودوروف وغريماس والشكلانيين الروس على وجه الخصوص.‏

واعتقد أن ترجمة «خطاب الحكاية » مثال جيد للجهد الترجمي العارف والمدقق، إذ حوت الترجمة تعريفاً بمارسيل بروست، لأن الكتاب تطبيق للمنهج والنظرية على روايته «البحث عن الزمن الضائع»، وبجينيت بصدد بروست، فيما تلقاه بروست من نقد، وفيما مثله جينيت في علم السرد، وفي الثقافة العربية، استقصاء لحركة ترجمة جينيت إلى اللغة العربية، وآخرها فصل من «خطاب الحكاية» نفسه تحت عنوان «المنظورات السردية» ضمن كتاب «نظرية السرد: من وجهة النظر إلى التبئير» (1989)، وقام بالترجمة مصطفى الناجي، إلى جانب نصوص لواين بوث، وبوريس اوسبنسكي، وفرانسوز روسوم كيون، وكريستيان انجلي، وجان ايرمان.‏

وأشارت المقدمة الأولى للترجمة أيضاً إلى استثمار جينيت في قراءة نصوص سردية عربية، كما عند سيزا قاسم وسعيد يقطين، وتناولت مشكلات الترجمة وحلولها، ولا سيما مشكلة المصطلحات، وضمانة «للدقة والوضوح حاول المترجمون مضاهاة ترجمتهم بالترجمة الأمريكية التي أنجزتها دجين. إ. لوين، وترجموا مقدمة جوناثان كالر للترجمة الأمريكية.

وحرصوا في ترجمة المتن على إيراد عنوانات المؤلفات الأجنبية والتعابير اللاتينية في أسفل الصفحات، مثلما استعملوا خطوطاً متنوعة أحجام الحروف واللون الأسود، مما يجعل من هذه الترجمة مثالاً جيداً لترجمة أمهات الكتب، والمصادر الأساسية في التراث الإنساني القديم والحديث، وتتضاعف حاجتنا إلى أمثال هذه الترجمة في هذا الوقت الذي تردى فيه هذا العلم وهذا الفن إلى مستويات لا تحوز الحدّ الأدنى من الرضى في كثير من النماذج.

وتتميز هذه الترجمة بملاحقها، وهي ثبت المصطلحات وثبت الأعلام، وثبت الأعمال الأدبية والفنية والنقدية، وثبت الشخصيات.‏

ولا شك، أن تأثير منهج جينيت كبير في الممارسة النقدية العربية، كما سنلاحظ فيما بعد في بحثنا، وهذا الكتاب، هو الأساس، في منهج جينيت، ومفاهيمه ومصطلحاته: الترتيب، المدة، التواتر، الصيغة، الصوت، والكتاب، كما يقول جوناثان كالر، بحث في بنى الأدب وطرائقه، و«عمل استفزازي، إضافة إلى أنه أداة لا غنى عنها للباحثين في الحكاية»(3).‏

(1) عدة مؤلفين: «طرائق تحليل السرد الأدبي» (ترجمة عدة مترجمين) ـ منشورات اتحاد كتاب المغرب ـ الرباط 1992 ـ ص5.‏
(2) ايكو، امبرتو: «القارئ في الحكاية: التعاضد التأويلي في النصوص الحكائية» (ترجمة انطوان أبو زيد) ـ المركز الثقافي العربي ـ الدار البيضاء ـ بيروت 1996 ـ ص5.‏
(3) جينيت، جيرار: «خطاب الحكاية: بحث في المنهج» (ترجمة محمد معتصم وعبد الجليل الأزدي وعمر حلي) ـ المجلس الأعلى للثقافة ـ المشروع القومي للترجمة ـ القاهرة ـ الط2 ـ 1997 ـ ص ص24-29.‏
أحدث أقدم

نموذج الاتصال