جذور القصة القصيرة جدا.. المنبع الغربي بكل روافده الفنية والأدبية ومهارة التجريب الروائي. الموروث السردي العربي

لا شك في أن معاينة القصة القصيرة جدا تسير على خطى ما قبلها من أنواع القصة القصيرة التي أفادت من إقامة علاقة من نمط خاص مع الموروث السردي بوصفه استجابة أساسية في ميادين الأبحاث السردية , والتي انقسمت على قسمين: توجه الأول إلى معاينة تلك  النصوص واستجداء خصائصها للوقوف على قدرات الموروث السردي الحكائي وكنوزه الكامنة. وانحرف الثاني باتجاه تأصيل النص السردي الحديث لكي يحقق ردم الفجوات التي تركها خمول البناء النظري , والذي كان يجب عليه أن يتقصى التمظهرات التعبيرية للأنواع الأدبية في الموروث العربي كافة. إذ شكل عائقا كبيرا في الدراسات الحديثة بسبب اهتمام النقاد بالجزئيات لا بالكليات , وتلك قضية لها دارسوها ولها مقارباتها الخاصة, إنما يعنينا هو أننا إزاء نوع قصصي أكثر جرأة وأكثر إثارة للأسئلة. وعندما نقول ذلك فإننا نقصد القصة التي تمثل مكونات وآليات خاصة في إعادة إنتاج النص القصصي , وكشف عوالمه السرية بعيدا عن القياسات التقليدية التي وضعت القصة في بنيات مألوفة ونمطية , وهي التي زجت النقاد في خضم البحث الإشكالي عن الهوية والنوع, فهي تمثل محاولة في اصطناع مزاج قصصي لذاته وبخياله وشفراته وانزياحاته , مثلما هي كذلك محاولة للهروب من تدوين التاريخ الذي يتمتع بالذاكرة القاسية , والقوة , ومرجعية الجماعة , والقياس الذي سيضعنا أمام أشكال ونصوص متصالحة مع السياق.
هذا النوع القصصي الجديد عانى من القياس في تأصيله بسبب المواقف التي تجاذبته في هذا الاتجاه أو ذاك , فموقف نسب القصة القصيرة جدا إلى الأصل الغربي وأنكر عليها الجذور العربية , وموقف آخر أسس وجودها من الجذور العربية وأنكر عليها أي صلة بالأنواع القصصية الغربية , وموقف ثالث أقر لها التأثر في القصة الأوربية والفرنسية بخاصة فضلا عن التأسيس لها من الجذور العربية  . وقد تبنينا هذا الموقف لما له من موضوعية وجدية؛ لذا نراها قد نهلت من منبعين رئيسين:
الأول: المنبع الغربي بكل روافده الفنية والأدبية، إذ تتفق اغلب الدراسات النقدية على أن التجديد والتحديث الذي حققه القصاصون في تجاوز المفاهيم التقليدية , قد انبثق من مهارة التجريب الروائي عموما والفرنسي خصوصا (آلان روب غرييه، ناتالي ساروت، كلود سيمون، ميشيل بوتور، روبير بيانجيه، مارغريت دورا، وغيرهم) . إذ امتازت لغتهم بالتكثيف وتحصنت من الاستطراد الذي ظنوه خير ناقل للمعنى وفقا للطريقة  الالماعية وانعكست تقنياتهم التجريبية على التدوين السردي العربي منذ العقد الستيني وتطورت استخداماتها في تجاوز المألوف والانفتاح على الشعر , والرسم , والموسيقى , والسينما , والمسرح , لتدمير القداسة الاجناسية للرواية التقليدية إذ عده بعضهم ضرورة تتمسك باشتراطاتها الواعية في  التجديد والتحديث لأن الاختلاف والتضاد في تقويض أسس القول القصصي التقليدي ربما يتعارض مع المتلقي (الجمهور), ومن ثم لن تخطب الرواية أو القصة إلا نخبة من متابعي هذا النوع الكتابي لأنها (تقرأ بصعوبة), فضلا عن اشتراطها لمتلقي يتجاوز التقليدي الاستهلاكي الذي يمنحها السكونية والارتضاء بالاجترار، فـ (النماذج محكومة بتحول دائم بفعل دينامية العلاقة بين النصوص والمرجعيات وكل نموذج قار هو نموذج متأزم في طريقه للانهيار ولأنه لم يعد قادرا على استيعاب مظاهر التجدد الضمنية الداخلية في النسق السردي وهو من بعد عاجز عن تفسير تحولات النوع وخصائصه). وانعكس هذا بشكل أو بآخر على القصة القصيرة جدا فكان لناتالي ساروت تأثير في هذا  الاتجاه ولا سيما بعد ترجمة روايتها (انفعالات) إذ شكلت كتاباتها المغايرة بداية التمرد على سكونية النص التقليدي وهي في جوهرها (صور وليدة اللحظة، ترجمتها الكاتبة إلى كلمات، هذه الكلمات مكثفة ومحددة تعبر عن أحاسيس، هذه الأحاسيس عفوية، وصادقة، ولصيقة بالأشياء، هذه الأشياء منظورة مسموعة ووليدة ملاحظة ثاقبة ومراقبة شديدة). مما دعا المترجم (فتحي العشري) لأن يبرم عقدا مع القارئ هو (قصص قصيرة جدا) باعتقاد راسخ أن مسار تلقيها سيتغير من نوع روائي جديد إلى نوع قصصي جديد, يعتمد على التواشج الكثيف في التحولات السردية والشعرية والفنية، يكتب بمهارة عالية، ويثير الدهشة، ويختزل المضمون، ليس غرضه (هدم النمط التقليدي وتشويه فعل الكتابة المقولب بقدر ما هو تشكيل جديد بفعل جديد يكون أكثر قوة ومباشرة وتأثيرا يحمل مضامين وينتصب بهندسة كتابية قادرة على تجديد النص) لهذه الأسباب ظل أكثر النقاد يعدون القصة القصيرة جدا إلى وقت قريب تقليدا غربيا و(عوملت الكتابات القصصية التي تعيد أو تستعيد الأشكال السردية  الموروثة مثل الحكاية والمقامة بتقدير اقل من القص المسترشد بالقص الغربي) إلى أن جاء اهتمام كثير من القصاصين بالموروث السردي بشكل فعال في ساحة الاشتغال القصصي فانحازوا بذلك مع نقاد كثر أيضا إلى تأصيل الفن القصصي العربي وكان وراء ذلك سبب إيديولوجي هو (نزعات الهوية القومية وإكراهاتها التي وضعت السردية العربية برمتها على محك  الإبداع الأصيل الذي يبتعث تقاليده في سيرورة وعي الذات والآخر).
الثاني: الموروث السردي العربي الذي عرف أنواعا قصصية مختلفة مثل (القصة/ الخبر) و (القصه/ النادرة ) و(قصة المثل ) وأنواعا أخرى لها مساس مباشر بالقصة القصيرة جدا سنفصل فيها القول لاحقا, وهدفنا من ذلك هو معاينة التحول  الجمالي الذي استفاد منه هذا النوع القصصي وليس معاينة التوافق أو الالتقاء بينهما فحسب.
إن هذا النوع الجديد والمغاير في فنيته للمعتاد والمهيمن ربما سيتحول إلى رافد من روافد الإبداع القصصي لنتاج جديد مستقبلا, لأن القصة القصيرة جدا قول لغوي ينتمي إلى منظومة اكبر وهي الأدب وان الأدب (هو مادة لغوية, لا يطابق الواقع المادي ولا يحاكيه , بل يفارقه، حركة المفارقة هي حركة نمو وتطور لا توازي الواقع فتخلق فوقه كالظل يواكب صاحبه بل تنهض على حد صراعي هو حد التناقضات , يخترق هذا الحد مختلف مستويات البنية الاجتماعية عليه يولد  التعبير في العلاقات بين الناس ، العلاقات هذه ليست مجرد علامات لغوية , هي أيضا ومن حيث ظاهره تعبير لغوي , علاقات مادية تحكمها مصالح الناس ومنازعهم الحياتية المختلفة).
أحدث أقدم

نموذج الاتصال