بديع الزمان الهمذاني.. الخروج إلى المتخيل.. المقامة وحدة درامية فيها الراوي والبطل والحدث الذي يتحول إلى صراع وحكمة تتمثل في ظهور الرجل المثقف البائس

في القرن الرابع الهجري عاش أبو الفضل أحمد بن الحسين المعروف ببديع الزمان الهمذاني وفي القرن نفسه مات أيضا (358-398هـ) وفي هذه الأعوام الأربعين كان الرجل بديعا في نص الزمان بحق لأنه المبدع الذي حقق للقصة العربية استقلالها وخرج بها من سياق التاريخ وزحام النثر وجدل المناظرات إلى آفاق الخيال.
    كانت هناك قصة قبل بديع الزمان لا أحد ينكر ذلك فلا توجد عائلة في التاريخ لم تقص القصص ولا يوجد مجتمع لم يرو الروايات, لقد روى العرب قبل الإسلام أيامهم التي تحفظ تاريخهم وصراعهم فكانت الملحمة الطويلة عن حرب البسوس بأبطالها المهلهل سيد ربيعة (الزير سالم) وكليب الطاغية وجساس المتمرد الأهوج والجليلة التي تنازع الحزن قلبها من جهتين فزوجها القتيل وأخوها القاتل وجرى القتال في الملحمة نحو أربعين عاما حافلة بالدمار والأشعار معلنة عن فشل النظام القبلي في إدارة الحياة ولكنها قدمت للدراما العربية كثيرا من النماذج الإنسانية التي مازال الكتاب يستلهمونها في العصر الحديث ويأخذون منها أفكارا أو"تيمات" يعالجون بها قضايا الواقع كما يستلهم كتاب الغرب الأساطير الإغريقية والرومانية في التعبير عن قضايا الإنسان.
    قبل الإسلام عرف العرب الأخبار التي تتحدث عن الذين تمردوا على قواعد القبيلة وظلمها وأطلق الناس عليهم اسم الصعاليك مثلما عرفوا قصص الحب العذري للذين تمردت مشاعرهم على الظلم الاجتماعي مثل عروة بن حزام الذي وقفت قسوة عمه حائلا بين ارتباط عروة وعفراء.
    وعرف العرب القص الخرافي على ألسنة الحيوان الذي يفسر أمثلتهم فكان حيوان "الضب" يحكم بين الأرنب المفترى عليه والثعلب المحتال ويقضى بينهما بفلسفة القوة التي ترى أن من أخذ غير حقه وهو قادر على ذلك فإن هذا يصبح حقه ولا عزاء للضعفاء.
    وعرفوا بعض القصص التي ألفها جيرانهم الفرس مثل قصة رستم وإسفنديار فقد كان السفر للتجارة يتيح لهم الاطلاع على ثقافات الشعوب الأخرى وكانت رحلاتهم إلى اليمن جنوبا والشام شمالا لا تنقطع وكانت صلاتهم بالفرس قائمة بل إن بعضهم قدم إلى مصر وكانت له فيها حكايات تروى عندهم مثل عمرو بن العاص الذي تروي الأخبار أنه جاء إلى مصر قبل الإسلام وحضر بعض الألعاب التي يقيمها المصريون في احتفالاتهم وتنبأ له بعض المصريين أنه سيصبح في يوم من الأيام حاكما للبلاد وتمضي السنوات ويفتح عمرو مصر ويتولى أمرها ويقيم بفسطاطها أول مسجد يتوافد عليه المصلون مع كل آذان إلى اليوم.
    ولما نزل القرآن الكريم قص على الرسول محمد –صلى الله عليه وسلم- والعرب أحسن القصص لأن القصة تعيد صياغة الذهن وتقدم للناس القيمة بأسلوب حيوي وتعلمهم تجربة الإنسان عبر المكان والزمان.
    ولما أقام معاوية بن أبي سفيان الدولة الأموية دعا بأحد الرواة الفصحاء العارفين بالتاريخ والأيام ليقص عليه أخبار عرب الجنوب فأتى عبيد بن شرية الجرهمي وروى له "أخبار ملوك اليمن" وهذا العمل يمثل بداية الرواية العربية التاريخية المدونة كما يرى الأديب فاروق خورشيد في كتابه "في الرواية العربية –عصر التجميع" ويأتي بعده كتاب وهب بن منبه (ت110هـ) تحت عنوان "التيجان في ملوك حمير"
    ولأن سيرة الرسول –صلى الله عليه وسلم- تعد المرجع الذي يستقي منه العربي المثل والقدوة والسلوك الإنساني الراقي والكفاح من أجل القيم السامية فقد قام محمد بن إسحاق بجمع هذه السيرة وروايتها في النصف الأول من القرن الأول الهجري وقد وصلت إلينا برواية عبد الملك بن هشام.
    وتمضي كتب الأخبار والسير والتراجم بعد ذلك لكن هناك علامات أساسية في القصة العربية من أهمها بديع الزمان الهمذاني الذي ابتكر شكل المقامة وأصبحت المقامة نفسها علامة دالة على القصة العربية في المكتبة السردية العالمية.
    المقامة التي ابتكرها بديع الزمان الهمذاني حكاية قصيرة لها بطل لا يتغير هو "أبو الفتح السكندري" ولها راويها وهو بطل مشارك في الأحداث واسمه "عيسى بن هشام" وفي كل مقامة يخرج عيسى فيلتقي بأبي الفتح الذي يحتال من أجل الرزق مع أنه أديب شاعر بليغ مثقف لكن المجتمع لم يمنحه ما يستحق فلجأ إلى أسلوب الاحتيال بالبلاغة مستغلا لسانه الفصيح وعلمه الغزير في إخراج الدرهم والدينار من "جيوب" الأثرياء وتعرف طريقة التسول البلاغي هذه أو الاحتيال بالفصاحة باسم "الكدية".
    وفي رأينا أن المقامات الهمذانية كلها تعد رواية متكاملة لها عناصر تربطها وهي الراوي وهو فاعل القول المشاهد للأحداث والمثقف المتسول وهو أبو الفتح السكندري فاعل "الكدية" وفعل الخروج المتكرر في كل مقامة وعملية الاحتيال البلاغية.. إن كل مقامة تبدأ بخروج عيسى بن هشام من بلدة إلى أخرى سعيا إلى الرزق أو هربا من الملل أو بحثا عن أبي الفتح الذي تعلق قلبه به لذلك نرى أن المقامات عمل متصل تماثل اليوم المسلسل الدرامي الذي يعرض المغامرات المترابطة في حلقات كل حلقة يمكن أن تستقل ولكن البطلين وطبيعة المغامرات وطريقتها تقيم وحدة بين حلقات المسلسل. والمقامات تعبر إلى حد ما عن حياة أبي الفضل بديع الزمان نفسه فقد ولد في همذان ثم تنقل بين جرجان ونيسابور وخراسان وسجستان ومدن كثيرة في فارس يتعلم ويقابل اللغويين والشعراء والعلماء وينافسهم وينتصر عليهم ويحبه من يحب ويكرهه من يكره لكنه في كل الأحوال كان فارسا للكلمة قوي الشخصية في النزال والنقاش وانتهى به الأمر إلى الزواج من أسرة ثرية فظن أن الزمان قد صفا له ولكن هذا الصفاء لم يدم طويلا لأن حياته القصيرة انقضت دون أن يبلغ الأربعين بحساب السنين الميلادية.
    ربما نجد صعوبة في قراءة المقامات لأنها اعتمدت على البلاغة اللفظية فكثرت بها المحسنات البديعية والألفاظ المعجمية التي كاد الناس يهجرونها ولهذا تكتسب المقامات قيمة تعليمية ولكن هذا الزحام من المحسنات لم يقف عائقا أمام الصراع الدرامي الذي تتميز به المقامات لدرجة يمكن أن نضعها في مقام رواية المغامرات. وفيما يلي نعرض المقامة الأسدية بشكل موجز مع الاحتفاظ بأسلوب الهمذاني وهي من المقامات القليلة التي لا تحمل اسم مدينة فمعظم المقامات تحمل أسماء المدن مثل (المقامة الكوفية/ المقامة الجرجانية/ المقامة البصرية/ المقامة البخارية وغيرها) ولكن بعض المقامات تتخذ أسماءها من المواقف الدرامية وإن ارتبطت بالمكان مثل المقامة المارستانية التي تحدث في المارستان أو مستشفى الأمراض العقلية التي تضم عقلاء أكثر من المجانين الذين يعيشون طلقاء دون أن يحترموا العقل الذي وهبه الله للإنسان فأصبح مكلفا حاملا أمانة إعمار الكون ومسئولية الرقي بالحياة أما المقامة الأسدية فتتحدث عن خروج عيسى بن هشام بحثا عن أبي الفتح السكندري فتحدث له مغامرات مع أسد من ناحية ومع أحد المحتالين قطاع الطرق من ناحية أخرى قبل أن يجد صديقه البائس ويمنحه عشرين رغيفا:
    "حدثنا عيسى بن هشام قال:
    كان يبلغني من مقامات السكندري ومقالاته ما يصغى إليه النفور وينتفض له العصفور.. وأنا أسأل الله بقاءه حتى أرزق لقاءه وأتعجب من قعود همته بحالته مع حسن آلته.. إلى أن اتفقت لي حاجة بحمص فشحذت لها الحرص في صحبة أفراد كنجوم الليل.. وأخذنا الطريق ننهب مسافته ونستأصل شأفته.. فما راعنا إلا صهيل الجياد.. فإذا السبع في فروة الموت قد طلع من غابه منتفخا في إهابة كاشرا عن أنيابه.. وقلنا خطب ملم وحادث مهم.. وتبادر إليه من سرعان الرفقة فتى.. بقلب ساقه قدر.. حتى سقط ليده وفمه وتجاوز الأسد مصرعه إلى من كان معه ودعا الحين أخاه بمثل ما دعاه فصار إليه وعقل الرعب يديه فأخذ أرضه وافترش الليث صدره ولكني رميته بعمامتي وشغلت فمه حتى حقنت دمه وقام الفتى فوجأ بطنه حتى هلك الفتى من خوفه والأسد للوجأة في جوفه.. وعدنا إلى الفلاة.. ولم نملك الذهاب ولا الرجوع وخفنا القاتلين الظمأ والجوع عن لنا فارس وقصدنا قصده فقلنا: مالك.. قال: أنا عبد بعض الملوك هم من قتلي فهمت على وجهي إلى حيث تراني وشهدت شواهد حاله على صدق مقاله ثم قال: أنا اليوم عبدك.. فقلت بشرى لك وبك وهنأتني الجماعة فقال: يا سادة إن في سفح الجبل عينا وقد ركبتم فلاة عوراء فخذوا من هنالك الماء فلوينا الأعنة إلى حيث أشار.. فقال: ألا تقيلون في الظل الرحب على هذا الماء العذب؟ فقلنا: أنت وذاك فنزل عن فرسه وحل منطقته.. وعمد إلى السروج فحطها.. فقلت: يا فتى ما ألطفك في الخدمة.. فقال: ما سترونه مني أكثر.. ثم عمد إلى كنانتي فأخذها وإلى فرسي فعلاه ورمى أحدنا بسهم أثبته في صدره وآخر طيره من ظهره فقلت ويحك ما تصنع! قال: اسكت يا لكع.. والله ليشدن كل منكم يد رفيقه.. فلم ندر ما نصنع وأفراسنا مربوطة وسروجنا محطوطة وأسلحتنا بعيدة والقوس في يده.. فشد بعضنا بعضا وبقيت وحدي لا أجد من يشد يدي.. ثم نزل عن فرسه وجعل يصفع الواحد منا بعد الآخر.. وصار إليّ وعليّ خفان جديدان فقال: اخلعهما لا أم لك فقلت: هذا خف لبسته رطبا فليس يمكنني خلعه فقال: عليّ خلعه ثم دنا إليّ لينزع الخف ومددت يدي إلى سكين كان معي في الخف وهو في شغله فأثبته في بطنه.. وقمت إلى أصحابي فحللت أيديهم.. وصرنا إلى الطريق ووردنا حمص بعد ليال خمس فلما انتهينا رأينا رجلا قد قام على رأس ابن وبنية وهو يقول:
رحم الله من حشا    في حرابي مكارمه
رحم الله من رنا     لسعيـــد وفاطمــــه
إنــه خادم لكـــم     وهي لاشك خادمــه
قال عيسى بن هشام: فقلت إن هذا الرجل هو الإسكندري الذي سمعت به وسالت عنه فإذا هو هو فدلفت إليه وقلت: احتكم حكمك فقال: درهم.. وقلت له: درهم في اثنين في ثلاثة في أربعة في خمسة حتى انتهيت إلى العشرين ثم قلت: كم معك؟ قال: عشرون رغيفا فأمرت له بها وقلت: لا نصر مع الخذلان ولا حيلة مع الحرمان."
وهكذا تمضي المقامات خروج ومغامرة وظهور لأبي الفتح يطلب فيه شيئا وفي كثير من الأحيان يكون ظهور أبي الفتح مرتبطا بقوله الشعر وإن كانت المقامة الأسدية من المقامات القليلة التي تحدث فيها مغامرة مركبة فهناك مواجهة مع الأسد الذي يقتل واحدا منهم ثم مواجهة مع قاطع الطريق المتنكر القاتل أيضا وكأن القصة تشير إلى صراع الإنسان في الوجود مع كائنات مفترسة لا بد له أن يخوض القتال معها متعاونا من أجل مواصلة رحلته ويخوض قتالا آخر مع الذين يهددون الأمن الاجتماعي والسلام الإنساني وفي هذه المعركة تفقد الإنسانية بعض رجالها ولكن رحلتها تستمر بالتعاون فيما بينها وبإعمال العقل لأن القوة وحدها لا تكفي.
المقامة وحدة درامية فيها الراوي والبطل والحدث الذي يتحول إلى صراع وحكمة تتمثل في ظهور الرجل المثقف البائس الذي يحلم بالخبز فتضيع عليه الدراهم.. وإذا كان هذا هو الحال مع كثير من المثقفين في المجتمعات الإنسانية فإن عقول بعضهم قادرة على فهم احتياجات أسواقهم الاجتماعية وتسويق بضاعتهم جيدا.. ويمضي البطلان عيسى بن هشام وأبو الفتح السكندري من مقامة إلى مقامة ومن بلد إلى بلد ومن حيلة إلى حيلة وكأن المقامات حلقات مسلسلة أو مجموعة من المغامرات, كل مغامرة لها استقلالها ولكنها معا تشكل سلسلة واحدة مثل المغامرات التي كنا نستمتع بقراءتها في طفولتنا المتأخرة وأوائل المراهقة. 
 أ.د. عبد المعطي صالح
أحدث أقدم

نموذج الاتصال