قصة الخبر.. الجمع بين التاريخ والفن والاعتماد على القص والسرد للأحداث المتعددة دون عناية بتصوير الأبعاد الفنية والاجتماعية وغيرها للشخصيات الفاعلة أو المحركة لها

 تجمع قصة الخبر بين التاريخ والفن مع حرص قائلها على تتبع مصادرها وكأنها وقعت فعلا. وتعد من أهم الأنواع السردية التي عرفها الأدب العربي القديم وتكمن خاصيتها الفنية في كونها (ممتعة، وشيّقه، ومؤثرة بلغتها، وأسلوبها, فلا ركاكة ولا ابتذال، ولا جفاف، ولا هلهلة، بل لغة طبيعية تناغم محتواها. وأسلوب مترابط الأداء متدرج الحبك، متصاعد التأزم، ويتحرك تلقائيا بتحرك الأحداث فلا يبطيء حيث تسرع ولا يلين حيث تقف ولا يتردد ولا يتلكأ) إن القارئ الجاد للقصة القصيرة جدا يكتشف كيف تضيق المسافة بينها وبين القصة/ الخبر ويقترب الواحد من الآخر في بعض العناصر والتقنيات التي تمنحه بعدا قصصيا إلى حد التماهي, مما دعا بعض النقاد منهم د. شكري محمود عياد لأن يعد (الخبر) بشيء من التسامح قصة قصيرة (ربما طال الخبر عند الجاحظ وكثر افتتانه بالحوار حتى ليستحق بفضل ما فيه من التفاصيل أن يسمى صورة وربما عد بشيء من التسامح قصة قصيرة) ورب سائل يقول وما علاقة القصة القصيرة جدا بذلك إذا كانت هذه التوصيفات تصب اهتمامها على القصة القصيرة؟ ونقول إذا كان الخبرـ بشيء من التسامح ـ يمكن عده قصة قصيرة فان الخبر يشكل النواة الأولى لكتابة القصة القصيرة جدا من دون أن ننسى التساؤل القائم أبدا ما الذي يجعل قولا من الأقوال كالخبر ينزاح تعبيريا ليتحول من فعل إخباري مهمته الإقناع إلى فعل جمالي مهمته الإمتاع؟ ولكي يأخذ الجواب صفته الموضوعية علينا أن نتقصى آراء بعض النقاد بهذا الشأن إذ يرى الدكتور رشاد رشدي أن الخبر لكي يكون قصة لابد أن تتوفر فيه خصائص معينة يجملها بما يلي:
‌أ- أن يكون له اثر كلي.
‌ب- يصور حدثا يتطور.
‌ج- ينمو إلى نقطة معينة.
ويرى الدكتور خليل ذياب أن (للخبر ضرب أدبي يقوم على القص والسرد للأحداث المتعددة دون عناية بتصوير الأبعاد الفنية والاجتماعية وغيرها للشخصيات الفاعلة أو المحركة لها وذلك لان العناية منصبة على تطوير الأحداث في المقام الأول دون اهتمام فني بالزمان والمكان, وتحديد مقوماتها الشخصية على نحو ما نجد في (داحس والغبراء) و(البسوس) أو غزوات الرسول e وغيرها التي اتخذت بنية الخبر التاريخي/ الحدث التاريخي) وعند تدقيق الرأيين السابقين واختبارهما يتبين لنا أن الأول يخلو من الخيال والثاني يعتمد القص والسرد من دون عناية بتصوير الأبعاد الفنية للشخصيات من جهة وان القصة القصيرة جدا تساير الخبر بخطوط متموجة تبتعد وتقترب، وتتلامس وتتداخل في إطار معين وتتبادل المواقع فيتحول الخبر إلى قصة قصيرة جدا لأن الخبر يقوم في السرد التاريخي على الإسناد طلبا للحقيقة أو الصدق التاريخي, والقصة القصيرة جدا تقوم في السرد الأدبي على خلق فضاء متخيلا، وقد عدها  كل من الناقد حسين علي محمد في دراسته (القصة القصيرة جدا، التشكيل والرؤية) والباحثة زينب عبد المهدي نعمة في رسالتها (القصة القصيرة جدا في العراق 1968- 2000) تطويرا لفن الخبر العربي, مثلما القصة القصيرة تطوير لفن المقامة, وعلى الرغم من اعتقاد الباحثة, أن كتّابها لم يستقوها من منابع عربية, وإنما من أخرى أجنبية . ويبدو إن هذا هو الدافع وراء تحديدها بأنها ((تقنية فنية في استيعاب الرؤية والحدث والموقف الإنساني بطريقة إبداعية مختزلة ومكثفة في آن واحد).
وما يشغلنا الآن هو كيف تطور الخبر من نوع إعلامي إلى نوع أدبي؟ يقينا أن الأخبار (المكتوبة/ المرئية/ المسموعة) تنبني على مفارقات, وان هذه المفارقات تؤثث وجودها في كل تفاصيل الواقع اليومي الذي يعيشه الإنسان, ولأن الخبر (سيل إعلامي يجرف المتلقي دون أن يهذب ذائقته أو يعمق وعيه بل على العكس يقوم بتبليده وترويضه. فيصبح المتلقي –قارئا أو متفرجا- مستلبا فاقد الحساسية الإنسانية والتعاطف مع متاعب الآخر. فتكديس الأخبار وتتابعها وطرائق عرضها وتقديمها تجعل من القهر والفساد والحصار والتجويع أمور عادية لا مفر منها. وكثيرا ما تصبح ترويحية، كأن ما يجري في العالم من موت أطفال وجوع شيوخ واغتصاب نساء ليس إلا شريطا لتسلية وملء فراغ ، لا حافزا للتفكير والتأمل والمراجعة, فالخبر بتقانات الاتصال الجماهيري يعطل الاستجابة , ويطبع الفضائح ويجعل الفظاعة تبدو أمرا عاديا فلا تثير ولا تحرك).
ولكي يغادر الخبر كل هذه التوصيفات عليه أن يعيد إنتاج الخبر لا من خلال ارتباطه بالواقع مرة أخرى ولكن بربط الواقع بالخيال على حد تعبير -إنريكي اندرسون امبرت- , إذ من (خلاله تعرف الأحداث غيرالعادية التي وقفت أثناء مسار الحياة اليومية أيا كانت درجة موضوعية الخبر أو بساطته فان الهدف من الخبر هو أحداث التأثير في القارئ بالإحساس بالمفاجأة واخذ حذره أو الفرحة أو الغضب أو الشفقة, وعندما يقوّم كاتب السرد واقعه فعليه على الورق فإنه يبينها داخليا ويعيد تنظيمها ويشرحها ويضع لها المقدمة النهائية أي يضفي عليها شيئا من الخيال) وتجسد قصة محمد جمال طحان القصيرة جدا (دي... موقراطية) ما ذكرناه في هذا المجال: ]حيى الضابط الأمريكي المواطن السوري بكل تهذيب عند نقطة التفتيش قرب ساحة عكاظ في الموصل. طلب منه بلطف أن يقف رافعا يديه ووجهه باتجاه الحائط، بينما راح الضابط يتفحص صندوق السيارة الخلفي.. دس صندوقا صغيرا يشبه ساعة المنبه، بعد بضع دقائق أعطاه بطاقة صفراء ودله على مركز تفتيش عراقي لإتمام الإجراءات، انطلق المواطن السوري بسيارته متوجها إلى المخفر لإتمام الإجراءات وهو يقول في نفسه: يا أخي ضابط مهذب.. هذه إحدى منافع الديمقراطية.. لو كان لدينا ضباط على شاكلته كنا بألف خير، بعد نصف ساعة تصدر الأنباء خبر مقتل إرهابي سوري فجر نفسه في مخفر عراقي بالموصل[.
لقد استدرجنا القاص على بساطة لغة قصته إلى الإقناع والإمتاع، وحضنا على المتابعة السريعة فاشتبك الواقع بالمتخيل, والتجربة بالمحاكاة, والوهم باليقين, فمنحتنا القصة بشفافيتها التي لا تخلو من براعة في إيقاد اللذة المنطفئة لتمكن الحرائق في آخر سطر من القصة من إحراق ذاكرتنا الخضراء ونحن نعيش هذا الواقع اليومي (مكتوبا ومرئيا ومسموعا) وبذلك استطاع القاص أن (يعيد إنتاج الخبر في شكل يجعل المتلقي يستيقظ من غفوته، يستنهض فيه التأمل ويستنفر إعادة النظر فيما يجري حوله) باشتراطات قصصية امتلأت بالحضور الإنساني المكثف مستفيدة من الصيغة الخبرية لكي تتجاوز وظيفتها العادية في التوصيل.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال