إذا نظرنا عن كثب إلى قائمة التغيرات غير المترابطة ظاهرياً سنجد أن هذه التغييرات ليست عشوائية كما تبدو، بل ثمة رابط واحد يجمع بينها.. سواء أكان التغيير يتمثل في الصعود المذهل لنجم اليابان أو الانحطاط المربك لشركة جنرال موتورز أو تدني مكانة الطبيب الأمريكي.
ولنأخذ تدني نفوذ الطبيب الأمريكي – أو الإله ذي المعطف الأبيض. ففي الفترة التي شهدت ذروة نفوذ الأطباء في أمريكا ظلَّ هؤلاء يحيطون المعلومات الطبية بستار من الكتمان. وكانت الوصفات الطبية تكتب باللاتينية، مما أضفى على المهنة سمة شبه سرية كان من شأنها أن ظل أغلب المرضى جاهلين بها. وكانت المجلات والنصوص الطبية المتخصصة مقصورة على محترفي الطب من القراء، كما كانت المؤتمرات الطبية موصدة الأبواب دون سواد الناس. وكان الأطباء يتحكمون في مناهج كليات الطب وفي قوائم المتقدمين للالتحاق بها.
قارن هذا بما يحدث اليوم.. حيث أصبح بوسع المرضى أن يحصلوا على المعلومات الطبية بسهولة مذهلة. فباستخدام حاسب آلي شخصي ووحدة ربط (Modem) يمكن لأي شخص أن يتصل من منزله بقواعد بيانات مثل (Index Medicus) ويحصل على معلومات علمية عن أي شئ – من (مرض أديسون) إلى (داء الفطر الملتحم). بل بوسعه، في الواقع، أن يجمع معلومات حول مرض أو علاج بعينه أكثر من تلك التي يملك الطبيب العادي وقتاً لقراءتها.
كذلك بات من السهل لأي شخص أن يحصل على نسخ من الكتاب المعروف باسم (المرجع المكتبي للأطباء) المؤلف من 2354 صفحة. كما يمكنه أن يشاهد مرة في الأسبوع (ولمدة 12 ساعة متواصلة)، على شبكة تلفزيون الكابل المسماة ( Lifetime)، برامج مرئية فنية شديدة التخصص معدة خصيصاً لتعليم الأطباء. صحيح أن العديد من هذه البرامج يحمل تحذيراً تنصلياً مفاده أن (بعض هذه المواد قد لاتناسب عامة المشاهدين)، إلاَّ أن تقرير هذا الأمر متروك للمشاهد.
أما في باقي الأسبوع فنادراً ماتخلو نشرة أخبار مذاعة في أمريكا من فقرة أو نبأ طبي. وتقوم ثلاثمائة محطة مرئية. كل ليلة خميس، بإذاعة نسخة معدة بالفيديو من المواد المأخودة من مجلة نقابة الأطباء الأمريكيين (The Journal of The American Medical Association) أما الصحافة فتنقل أخباراً وتقارير عن قضايا الإهمال الطبي. وثمة كتب ذات طبعات شعبية رخيصة تقدم إرشادات للقراء العاديين حول الآثار الجانبية للأدوية التي يتعيَّن عليهم عدم مزجها، وكيفية زيادة أو خفض مستويات الكلوسترول عن طريق الحمية (الرِجيم). وفضلاً عن ذلك فإن الاكتشافات والطفرات الطبية الهامة، حتى لو نشرت لأول مرة في المجلات الطبية المتخصصة، تذاع في نشرات الأخبار المسائية في الإذاعة المرئية – ربما قبل أن يتسلم أستاذ الطب نسخته منها.
وبإيجاز فإن احتكار المعلومات الطبية من قبل المهنة الطبية (في الولايات المتحدة) قد انتهى تماماً ولم يعد الطبيب ألهاً كما كان.
بيد أن هذا المثال عن الطبيب المسلوب النفوذ ماهو إلاَّ غيض من فيض أشمل يبدل الآن كل العلاقة التي تربط بين المعرفة والسلطة في الأمم ذات التقنية المتقدمة.
ففي ميادين أخرى عديدة، أيضاً، أخذت المعرفة المتخصصة، المحرمة على غير أهلها، تنفلت من قبضة المتحكمين فيها لتصل إلى المواطنين العاديين. كذلك بات المستخدمون داخل الشركات الكبرى يصلون إلى المعرفة التي كانت تحتكرها الإدارة ذات يوم. إذن، فيما يعاد توزيع المعرفة نجد أن الشئ نفسه يحدث للسلطة القائمة عليها.
التسميات
مسؤولية طبية