الاصطدام بالمستقبل.. ظهور النظام الجديد لخلق الثروة وخلق تحولات هامة للسلطة. إمبراطوريات المستقبل ستقوم على العقل

بيد أن ثمة معنى أوسع لما تسببه (أو تسهم فيه) التغيرات في المعرفة من تحولات للسلطة والنفوذ. لقد كان أهم تطور اقتصادي في زماننا هذا هو ظهور نظام جديد لخلق الثروة لايقوم على العضلات،  كما كان الحال في السابق، بل على العقل. فلم يعد العمل في الاقتصاد المتطور قاصراً على التعامل مع (الأشياء) إنما، كما يقول المؤرخ مارك بوستر (Mark Poster) بجامعة كاليفورنيا، على (تأثير الرجال والنساء على رجال ونساء غيرهم.. أو – بمعنى آخر – تأثير الناس في المعلومات وتأثرهم بها).
إن إحلال المعلومات أو المعرفة محل الجهد العضلي هو الذي يقف، في الواقع، وراء متاعب جنرال موتورز.. وصعود اليابان. ذلك لأنه فيما كانت جنرال موتورز لاتزال تعتقد بأن الأرض مسطحة كانت اليابان تستكشف حوافها وتكتشف أنها ليست كذلك.
فمنذ عام 1970م، حينما كان قادة الأعمال في أمريكا لازالوا يعتقدون بأن صناعاتهم ذات المداخن في أمن وأمان، كان نظراؤهم في اليابان، بل وعامة جمهورها، يتعرضون لسيل لاينقطع من الكتب والمقالات الصحفية والبرامج المرئية التي تبشر بمقدم (عصر المعلومات) وتركز على القرن الحادي والعشرين. وفيما ظلَّت فكرة انتهاء اعتماد الاقتصاد على الصناعة تلاقي الاستخفاف في الولايات المتحدة، كانت تجد الترحيب والقبول لدى صانعي القــرار اليابانيين في ميادين الأعمال والسياسة والاعلام. لقد خلصوا إلى المعرفة هي مفتاح النمــو الاقتصادي في القـــرن الحادي والعشرين.
ومن ثم لم يكن عجباً أنه على الرغم من أن الولايات المتحدة كان لها سبق البدء في استخدام الحاسب الآلي إلاَّ أن اليابان كانت أسرع منها في إحلال تقنيات الموجة الثالثة القائمة على المعلومات محل التقنيات القائمة على المجهود العضلي المنتمية للموجة الثانية.. المنحسرة.
فقد شاع فيها استعمال الربوتات. وبدأت أساليب التصنيع المتطورة، القائمة على الاستخدام المكثف للحاسبات الآلية والمعلومات، في طرح منتجات لايمكن مضارعة نوعيتها بسهولة في أسواق العالم. وفضلاً عن ذلك بادرت اليابان – إقراراً منها بأن صناعاتها القديمة ذات المداخن لامحالة زائلة – إلى اتخاذ خطوات لتذليل عملية الانتقال إلى الصناعات الجديدة ولتحصين نفسها ضد ما يستتبع هذه الاستراتيجية من تزعزع واضطراب. أما عن التناقض بين هذا ومايحدث في شركة جنرال موتورز- والسياسة المتبعة في أمريكا عموماً – فحدث ولاحرج.
إذا دققنا النظر في كثير من حالات تحول السلطة المذكور آنفاً، سيتضح لنا أن الدور الجديد للمعرفة ( أي ظهور النظام الجديد لخلق الثروة) قد تسبب أو أسهم في تحولات هامة للسلطة في تلكم الحالات أيضاً.
إن إنتشار الاقتصاد الجديد المبني على المعرفة إنما يمثل، في الواقع، القوة التفجيرية الجديدة التي قذفت بالدول المتقدمة إلى أتون التنافس العالمي المرير وكشفت للأقطار الشيوعية عن التخلف المزمن لصناعاتها وأجبرت كثيرا من (البلدان النامية) إلى التخلي عن استراتيجياتها الاقتصادية التقليدية.. وهي الآن تزعزع علاقات السلطة والنفوذ على المستويين الشخصي والعام.
لقد قال ونستون تشرشل، كما لوكان يقرأ الغيب، بأن (إمبراطوريات المستقبل ستقوم على العقل). واليوم أضحت تلك الملاحظة حقيقة واقعة. أما ما لم يلاق إدراكاً كاملاً بعد فهو الحد الذي سيصل إليه تبدل السلطة الأولية الصرفة (على مستوى الحياة الخاصة وكذلك على صعيد الإمبراطوريات) في العقود القادمة نتيجة للدور الجديد الذي يقوم به (العقل).
أحدث أقدم

نموذج الاتصال