نظرا لقلة المصادر التاريخية والوضع الهامشي للتواريخ المحلية في الاسطوغرافيا الكلاسيكية، وضع تاريخ محدد لتأسيس هذه المدينة إلا أنه، واستنادا إلى ما أورده التيجاني في رحلته التي آلفها بعد عودته من سفر قاده إلى أرض زوارة ومناطق أخرى داخل التراب الطرابلسي، القول بان تمركز الساكنة في مدينة زوارة الحالية يعود إلى الفترة الواقعة بين نهاية القرن الرابع عشر حين اعتبرها الحسن الوزان أو ليـون الإفريقـي مدينة مستقلة سياسيا بناها الإفريقيون على الشاطئ الغربي لليبيا.
إن رحلة التيجاني رغم بساطة وصفها وتموقعها اللاموضوعي من المعتقد المذهبي الاباضي للساكنة المحلية، فمؤلفها مسلم سني ونحن نعرف موقف المسلمين السنيين من المذهب الخارجي، وثيقة تاريخية مهمة على اعتبار أنها كتبت في بداية القرن الثامن الهجري أي بداية القرن الرابع عشر الميلادي وتشكل إلى حد الساعة أقدم وثيقة أصلية عن تاريخ المنطقة الاجتماعي والعمراني.
وإلى جانب هذا فهي تضع بين أيدينا مجموعة من المعطيات يمكن استثمارها لبناء فرضيات حول الفترة التاريخية التي عرفت تمركز التجمع القبلي آت ولول بمدينة زوارة الحالية خاصة إذا ربطناها بالمعطيات المتأخرة للرحالة الأوروبيين.
التيجاني يخبرنا بأنه زار قرية زوارة الصغرى التي تعرف أيضا بوطن أو بلد المرابطين التي استولى عليها الخراب وشاهد أيضا موضعا اسمه وزدر "قد محي رسمه وبقي اسمه وتخرب اكثر البناء الذي يحف به ولم يبق من أهله إلا أناس قليلون سكنوه حبا للوطن" (ص 207) كما زار أيضا كوطين أو ما يسميه بزوارة الكبرى ومكان آخر يسمى بولول ويصفه ب "منتهى ارض زوارة وسميت بذلك لان أقواما من البربر يعرفون ببني ولول نزلوا بها وكذلك تعرف في القديم بأرض بني ولول" (الرحلة ص. 210).
وكل هذه الشذرات الوصفية معطيات يمكن اعتبارها في وسط مديني مغلق ومتمركز وموحد لأغلب الفرق الاثنية التي تقتسم المجال الترابي لأرض زوارة. فزيارته جاءت مباشرة بعد الاضطرابات السياسية الكبرى التي رافقت التغريية الهلالية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر والتي نجد أصداءها في الشهادة القيامية للمؤرخ ابن خلدون حول الخراب الذي أصاب منطقة طرابلس. فهذا المؤرخ لم يجد غير عبارات كارثية ليصف الدمار الشامل الذي أصاب المنطقة: لإيقاد النار ولا ديك يصيح وهذا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ويمكن أن نلمس جانبا آخر من هذا الاضطراب في موضع آخر من الرحلة يكشف عن وجود، إلى جانب أحد أهم الحصون الإفريقية بأرض تونس الذي هو الجم، "قرية عامرة بها جنات ومزارعات متسعة ومسجد جامع وأسواق نافقة يسكنها قوم من البربر كانوا قبل ذلك ساكنين بقصر مليتة من ارض زوارة " (الرحلة، ص: 59) وهي شهادة يمكن موضعتها في سياق الروايات التاريخية المتعددة حول الهجرات الغربية للقبائل الليبية بعد الانتشار الديمغرافي للهلاليين بالمنطقة.
لكن الذي يهمنا نحن في إطار بناء فرضية تاريخية حول تأسيس مدينة زوارة هو معطيين أساسيين.
المعطى الأول يكمن في اعتبار كل القرى اصغيرة وأحوازها أجزاء من مجال ترابي عام هو أرض زوارة، وقد أصاب الخراب معظمها وهو تصور ينسجم مع المتخيل الاجتماعي الحالي للساكنة المحلية الذي يعتبر كل المجال الترابي المحيط بالمدينة داخلا في أرض زوارة وكان قاعدة رمزية ووظيفية لتوزيع وتدبير المجالات الزراعية والرعوية المشتركة إلى وقت قريب قبل التحولات الأخيرة الناتجة عن التدخل الدولتي.
وقد يكون أساه مجموع العلاقات التحالفية والجنيالوجية الموجودة أصلا بين الفرق الموزعة على المجال قبل أن تتوحد في إطار تنظيم اكثر لضمان الاستمرارية والبقاء.
ومقارنة هذه الحركية مع حركيات متشابهة في المناطق الأخرى بشمال إفريقيا يسند هذا الطرح. ففي التجمعات القصرية المتواجدة خاصة في المناطق الصحراوية، وأظن أن المنطقة في بداية القرن الرابع عشر قد شهدت نفس النظام وهذا على الأقل ما توحي بذلك أسماء المناطق في خطاب التيجاني أو في مؤلف متأخر لابراهيم الشماخي حول طرق وقصور جبل نفوسة، تضطر المجموعات الاجتماعية الموزعة على قصور صغيرة إلى تشكيل تجمع عمراني واحد ومتين لمواجهة أحداث طارئة، في حين تلجأ المجموعات القبلية الأخرى كالرحل أو التي تنتظم فيما يسميه الانتروبولوجيون المغاربيون بالجمهوريات الجبلية إلى الانتظام في أحلاف قبلية أوسع انتشارا.
المعطى الثاني وهو قوله بان ولول تعرف بأرض بني ولول لأن أقواما من البربر يعرفون بذلك قد نزلوا بها.
فإذا كانت اغلب الفرق القبلية التي تشكل حاليا النسيج الاجتماعي لزوارة، إذا استثنينا طبعا العمال الفلاحيون المتمركزون في الاحواز والذي كانوا وراء تأسيس أهم المراكز الحضرية في سياق سياسي مغاير بعد الاستقلال كركدالين، جميل ولعجيلات ترجع في أصولها إلى آت ولول فإننا نستطيع أن نفترض، ودائما برجوعنا إلى قواعد التنظيم الاجتماعي للقبيلة بشمال إفريقيا، أن الفرق الاجتماعية الصغرى التي كانت تسكن القرى والقصور المهجورة بعد تأسيس زوارة كتجمع عمراني موحد قد اندمجت تحت اسم الفرقة المهيمنة التي شكلتها آنذاك آت ولول.
هكذا نخلص إلى النتيجة التالية فبسبب الاضطرابات السياسية والضغط الديمغرافي الذي كانت وراءه هجمات القبائل العربية الهلالية بتحالف مع بقايا الممالك المرابطية وخاصة بنو غانية وغيرها اضطرت مختلف الفرق القبلية التي تنتمي أصلا إلى قبائل زناتة وهوارة الامازيغيتين إلى اختيار مركز عمراني واحد محصن ومموقع استراتيجيا والتمركز داخله والاندماج سلاليا تحت اسم أهم الفرق التي كانت تشكلها آنذاك فرقة آت ولول أما بسبب قدمها بالمنطقة أو بسبب قوتها المادية أو العسكرية.
وقد وقع هذا التجميع في الفترة الواقعة بين رحلة التيجاني ووضع الوصف الشامل لإفريقيا الشمالية من قبل الحسن الوزان في بداية القرن السادس عشر.
هذا الأخير ولدى حديثة عن منطقة طرابلس يخبرنا عن وجود مدينة اسمها زوارة تبعد عن جربة بنحو خمسين ميلا وهو ما قد ينسحب على الموقع الحالي للمدينة.
وأشار أيضا أنها مدينة بناها الفنيقيون على شاطئ المتوسط ويعيش أبناؤها على الجبس والجير الذي يقومون ببيعه في طرابلس.
ويتزامن وضع هذا التأليف الذي كانت وراءه خلفيات تشكيل معرفة حول المكونات السياسية والسوسيولوجية لشمال أفريقيا لتقديمها إلى الأوساط الملكية الإسبانية والبرتغالية مع الفترة التي احتل فيها الاسبان بفضل فردينانددي نافارو مدينة طرابلس، وهو احتلال دام من 1510 إلى 1551 الذي يستفاد من تأكيده على إن سكان زوارة يسكنهم "خوف مستديم من هجمات الإفرنج الذين يحتلون طرابلس" (كتاب وصف أفريقيا للحسن الوزان، طبعة باريز 1956. ص 402).
ورغم وجود إشارة تاريخية أخرى تعود إلى حقبة متقدمة عن تاريخ وصف إفريقيا للوزان والتي لا نعرف مصدرها بالتحديد وقد أوردها مؤلفو كتاب ليبيا أو استكشاف بلد(طبعة باريس، 1999) وتقول بان طرابلس الغرب التي تحولت إلي مدينة بعد فترات من تعاقب الدول المعروفة في التاريخ المغاربي على حكمها وذلك بفضل مجهود عدة عائلات نبيلة محلية خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر، قامت بمنح مملكة فنيس حق استثمار الملاحات البحرية بمدينة متمركزة في القرن الرابع عشر.
فرحلة التيجاني كمصدر يمكن الوثوق بصحة معطياته الوصفية يشهد بوجود قريتين تحملان اسم زوارة: زوارة الصغرى وزوارة الكبرى يضاف إليهما اسم آخر ربما لغاية اثنونيمية، إلى جانب تجمعات سكنية أخرى وصغيرة، وهو وضع يمكن أن تستغله الدولة-المدينة الطرابلسية للتحكم في المجال البحري لأرض زوارة خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الاختيار العام لطرابلس المتمثل في احتكار التجارة البحرية.
هكذا يمكن لنا أن نفترض بان الوضع العام لأرض زوارة في بداية القرن الرابع عشر الميلادي المتمثل في انهيار مجالاته العمرانية (اغلب القصور والقرى أصابها الخراب) وفي توالي هجرات سكانها وفي تزايد الأطماع الأجنبية (استحواذ طرابلس على حق استغلال الملاحات الساحلية للمنطقة) قد سارع وتيرة التفكير في خلق تمركز سكاني وعمراني وذلك من اجل تفعيل البنيات الاجتماعية للحفاظ على سيطرتها على مجالها التقليدي والوقوف في وجه التحديات والأطماع الأجنبية.
وهي خلاصة تسندها شهادة الحسن الوزان التي تكشف عن تمكن زوارة من الاستقلال عن نفوذ طرابلس التي سقطت بدورها مع بداية القرن السادس عشر في يد السيطرة الإسبانية، وهو استقلال لن يتحقق إلا بتأسيس تجمع عمراني واحد من مختلف الفرق القبلية الموزعة على قرى وقصور ارض زوارة التاريخية والذي شكلته مدينة زوارة الحالية في فترة تاريخية قد تكون نهاية القرن الرابع عشر أو بداية القرن الخامس عشر الميلاديين.
لكن يبقى مشكل تحديد من هو الموقع الذي تم اختياره من بين قصور وقرى ارض زوارة وتحويله إلى مدينة زوارة قائما. فإذا كانت الرواية الشفوية ترجح كوطين الواردة في رحلة التيجاني، ونحن نعرف دور العوامل الاجتماعية في ترجيح وبناء الروايات، فإن الأمر يتطلب دراسات اركيولوجية وطبغرافية تضع بعين الاعتبار المراحل التي حددتها الرحلات القديمة وخاصة رحلة التيجاني.
التسميات
ليبيا