الجهة الدائرية.. الاستناد على التشاكل في بناء الإيقاع لا يعني ضرورة التماثل المطلق بين مجموع مكونات الحدث المتكرر

إن نظرية الجهة البلاغية تمثل مقاربة معرفية للأوجه البلاغية انطلاقا من فرضيتين أساسيتين:  فلأولى، هي المنظور الزمني التفاعلي الذي يؤول تلك الأوجه بالنظر إلى مواقعها في الجهات البلاغية، بينما الثانية تشكل المنظور المعرفي الذي يضع الجهات في قوالب مستقلة نسبيا عن بعضها بعض ومتفاعلة بواسطة منافذ متعددة.
وهذا يعني أن تلك الأوجه ليست مجرد محسنات، كما كانت تعتقد بذلك النظريات البلاغية التقليدية (العربية والغربية)،  بل تمثل قوالب ذهنية ذات وظائف معرفية في سياق تفاعل الإنسان مع العالم.
ذلك أن الأساس المعرفي لمفهوم الجهة البلاغية (Rhetorical aspect) الذي اقترحناه توسيعا للجهة النحوية يتمثل في مدخرات الإنسان المقولية؛ الثقافية والانتربولوجية باعتبارها حصيلة تفاعله مع العالم الخارجي.
فآلية الإطناب (Redondance)، مثلا، قبل أن تمعجم في اللغة بواسطة الأساس اللغوي لها عنوان أو عناوين في العالم الحسي_ التجريبي للإنسان.
لقد أكد غورهان على القول بأن الفعل الإنساني أقل إبداعا للآلة، لكنه أكثر إبداعا للزمان والفضاء الإنسانيين، الشيء الذي يفسر ملاءمة المنازل الأولى للتقديمات الإيقاعية؛ إذ يمثل هذا التدجين الرمزي _التخييلي انتقالا من الإيقاعية الطبيعية للفصول والأيام ومسافات المشي إلى إيقاعية مشروطة منظمة داخل الرموز الميقاتية والمترية.
ومن هنا، فالجهة الدائرية المتضمنة للزمن الإيقاعي بوصفه خطا منغلقا على نفسه، تحيل على تصورات العود اللأبدي الموجودة منذ أقدم الحضارات الشرقية أو اليونانية.
كما أن الاستعارات دفعت بالإنسان إلى مقارنة حياته (ولادة، كهولة، شيخوخة) بالدائرة الشمسية اليومية (فجر، ظهيرة، مساء..الخ) أو بالدائرة السنوية للفصول[1].
وهكذا، تمثل الجهة الدائرية العنوان _الأساس للزمن الإيقاعي الذي ينشطر إلى زمن إيقاعي منتظم وآخر غير منتظم؛ أي دوري.
إن الزمن الإيقاعي المنتظم باعتباره مجموعة تشاكلات منتظمة، ينتمي حسب النظرية الجشطالتية إلى التوقع بالنظر إلى إدراكه بوصفه نظاما، وإلى تأثيره على المتلقي.فإيقاع النبر، مثلا، له تأثير مقو للطاقة، إذ ينتج لدى المتلقي نشاطا محركا متزامنا[2].
وبذلك، من شروط إدراك الإيقاع؛ التشاكل، سواء أتعلق الأمر بتكرار الحدث الإيقاعي (البصري أو السمعي) أم بتساوي الديمومة (Isochronisme) مع تكرار الفواصل التي يحتمل أن تكسر الإيقاع في حالة حدوث تغيرات في تمفصلها البسيط أو المزدوج كما هو الحال في قصائد الشعر الحر.
بيد أن الاستناد على التشاكل في بناء الإيقاع، لا يعني ضرورة التماثل المطلق بين مجموع مكونات الحدث المتكرر، لأن القافية، مثلا، قد تعتمد فقط على المستوى الأدنى للتشاكل وهو التشاكل في الصائت والصامت الأخيرين (فارس = ملمس).
كما أن الوجه البلاغي تشاكل الصوائت (Assonance) يمثل هذا المستوى الأدنى ويضمن بواسطة المماثلة الصائتية إدراك الزمن الإيقاعي إذا كان التراكم منتظما.
الزمن الإيقاعي المنتظم، إذن، ومن وجهة نظريات الإدراك و الإعلام، يوفر للمتلقي إمكانية التنبؤ بالمعلومة الجديدة (المستقبلية) في الخطاب بواسطة مبدأ الانتظار أو التوقع الناتج عن تراكم ثلاثة أحداث، على الأقل، سمعية أو بصرية، وهو ما يؤشر على التفاعل بين النسقين الفضائي والصوتي من جهة والنسق الدلالي من جهة ثانية.
ومن أمثلة هذا التفاعل ما يمكن اعتباره تشاكلا بين تقطيع الجمل وطولها ونواتها المعنوية، بحيث يؤشر البعد الفضائي للتركيب على زمن إيقاعي يحيل على التشاكل الدلالي الذي يحيل بدوره على المرجع. لننظر في مقطع شعري لمحمد الخمار الكنوني بعنوان: لامرور[3].
23_لا مرور
تنتصب العلامة
تزدحم الأسماء
في نوبة الألوان،
قد قامت القيامة
وبدأ المرور
كن لصا أو مهربا،
كن جثة أو بهلوان،
قف أنت، لا مرور
للإنسان....
يتضمن هذا المقطع تراكبات منسقة؛ تنتصب العلامة،  تزدحم الأسماء _كن لصا أو مهربا، كن جثة أو بهلوان... وهي تمثل بواسطة تناظر تقطيعها على المستوى الفضائي تشاكل الحاجز الذي ينسجم والعنوان لامرور المنشطر بدوره إلى الوحدات الدلالية " العلامة"، " قف"، " لامرور" المتصارعة مع الوحدة الدلالية لتشاكل المرور؛ "بدأ المرور".
وهكذا، يمكن اعتبار الزمن الإيقاعي المنتظم مؤشرا على التناص المساند للبنيات الإيقاعية التقليدية مثل وحدة القافية والبحر الشعري.
وبذلك، فهو زمن تعاقدي وتوقعي في الآن نفسه، أما الزمن الدوري، فهو إيقاع حر وغير منتظم، إذ يعتمد على أنساق صوتية تتردد في الخطاب الشعري بشكل دوري مثل تشاكل الصوامت (Allitération) وتشاكل الصوائت (Assonance)، والعائد (Anaphore) تكرارا دوريا لكلمة رئيسة في النص.
ومن هنا، يمكن للزمن الدوري أن يؤشر على التناص التهديمي وعلى تفاعل الجهة الدائرية مع الجهة المتشابكة التي تسم التشاكلات باللانظام.
غير أن الأوجه البلاغية السابقة يمكن أن ترد تشاكلاتها منتظمة فتندرج حينئذ في الزمن الإيقاعي المنتظم التعاقدي.
وعليه، يمكن تحديد كيفية اشتغال الجهة الدائرية بزمنيها انطلاقا من البحث في أنساق التشاكلات الصوتية والمعجمية والتركيبية التي تنتظم مجموعة من الأوجه البلاغية، دون أن نتجاهل، تفاعل هذه الجهة مع جهات بلاغية أخرى بواسطة مبدأ الانعكاس المرآوي.
[1] جماعة µ 1977، صص.125_128
[2] المرجع نفسه، صص.131_132
[3] الكنوني، رماد هسبريس ص.90.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال