تطوير المدرسة وتوظيف العمل البيداغوجي لتشييد مواطنة متجلية في تلمس الرابطة بين الحقوق والواجبات وبين قيمة الذات وقيمة الآخر

يثير الحديث عن الرهان المجتمعي المتعلق بالمسألة التربوية ثلاث مقدمات ضرورية تؤسس السيرورات التي أومأنا إليها في سابق قولنا وتجسد معالمها المتنوعة والمتمايزة.

تكمن أولى هذه المقدمات في الازدواجية المتحققة في هذا الرهان بين مختلف أفعاله ومساعيه وبين منتظراته، إلى حد تفقد فيه هذه المنتظرات معناها ومغزى وجودها بمنأى عن تلك الأفعال والمساعي.

ويظهر ثانيها في تجرد الرهان المجتمعي عن أن يكون وصفة جاهزة أو كتلة صماء من الأفكار والمواقف التي تتجاوز شروطها السياسية والثقافية أو تبتعد عن تناقضاتها الفكرية والاجتماعية.

أما المقدمة الثالثة والأخيرة، فتبدو في اقتناعنا بكون الرهان في هذا المنحى هو بمثابة مسلكية يؤسسها تاريخ مملوء بوقائعه وخصوصياته، ويجسدها واقع متموج بملابساته وتحولاته، ويعززها وعي متأرجح بين دفتي النزاع والتوافق، وعي متحرك بين حدي الوضوح والالتباس، وعي يستمد استمراره من مختلف المنتظرات المتمحورة حول المنظومة البيداغوجية بوجه عام.

في ضوء هذا الاختيار إذن، تتبدى أهمية مقاربة الرهان المجتمعي، وهي مقاربة قد تتحقق صلاحيتها أكثر حين الارتباط بعناصر إرشادية ندرك ضرورتها كلما تعلق الأمر بفهم الرهان المتمحور حول المدرسة وحول مهنة التعليم بالتحديد، ووضعه على محك إبستمولوجي يتيح تفسير منطلقاته ومضامينه وتأويل مختلف غاياته وأبعاده.

إن للسياق السوسيو سياسي معالم مركزية تؤسسها المحطات التاريخية المميزة للمجتمع المغربي وتجسدها مختلف الوقائع والتحولات التي ترسم راهن المجتمع وتحدد اختياراته وتشخص تأرجحه بين الانفتاح والانطواء، بين التوازن والاختلال. ناهيك عما يبرزه هذا السياق من تمفصلات واضحة بين ماضي المجتمع وحاضره ومستقبله.

فإذا كنا نعتبر في هذا المقام توفر مجتمعنا على عمق تاريخي وحضاري، فإننا لا نختزل التاريخ في الوقائع والأحداث التي شهدها المغرب في مراحل زمنية متعاقبة، بل إن معنى التاريخ ماثل في السيرورة السياسية والاجتماعية التي حكمت تطور المجتمع المغربي وماثل أيضا في المعالم العمرانية والثقافية والرمزية التي ارتسمت وتوسعت على مر العصور والأزمنة، واكتسبت صورتها الحية من خلال مختلف القراءات والتأويلات التي اتخذت تاريخ المغرب موضوعا لها.

وتتحقق قيمة التاريخ في كونه مصدر ذاكرة مجتمعية كفيلة باستنهاض حلقات الماضي ووقائعه بهدف القطع مع سلبياته واستثمار ايجابياته المختلفة من أجل تنوير الحاضر واستتشراف المستقبل.

ومهما اعتبرنا التاريخ ركنا محوريا في تفسير وجود وتماسك كثير من معالم الحقل السياسي والثقافي في الوقت الراهن، فإن ذلك لا ينبغي أن يقودنا إلى إغفال البنيات والأنظمة السياسية والاقتصادية والثقافية التي شهدت ميلادها وتطورها بعد احتكاك المغرب مع الأنماط الحضارية الغربية، واخترقت بقوة كيان الدولة والمجتمع وطبعت جزءا هاما من نسيجهما التنظيمي والإيديولوجي والقيمي.

إن تاريخنا في أبعاده ومستوياته، وإن حاضرنا في مناحيه المختلفة، يجدان تعبيرهما القوي داخل المنظومة الثقافية المغربية، سواء في عمقها التراثي المعماري والرمزي، أو في تداولاتها الشفوية العريضة، أو في أركانها العالمة والمكتوبة.

وهي في كل ذلك نازعة إلى البوح بواقع التعدد في التشكيلات والصياغات اللغوية وفي الحقول والمناطق المعرفية، وضامنة لاستمرار النخبة الثقافية وتطور أدائها وتنوع وتفاوت اختياراتها ونزعاتها.

وبقدر ما تشكل منظومتنا الثقافية رأسمالا حقيقيا قادرا على تدشين وتوسيع التواصل بين مختلف الأقطاب المجتمعية وإقامة الجسور بين المناطق والجهات، فإننا نعثر في ثنايا هذه المنظومة على فاعلية ثلاثية الأبعاد تصدر بالضرورة عن مختلف مضامينها وتناقضاتها واستشرافاتها.

فبالقدر الذي ينفعنا رصيدنا الثقافي في الانفتاح على الغير واستلهام بعض إنجازاته، فإن السلوك الثقافي يتجه في كثير من الأحيان إلى ممارسة انطوائية تتجلى في الانقلاب على هذا الغير واعتبار ما عنده هراء أو جنوحا عن الحق والطريق القويم.

فإذا كانت ممارستنا الثقافية، بهذا المعنى، متأرجحة بين حدي الانطواء والانفتاح، فإنها في ذات الوقت متمركزة بين التقليد والتجديد، إذ في الوقت الذي تنزع فيه توجهات ثقافية إلى بث روح التجديد في الكيان المجتمعي والرمزي، من خلال اختيارات منهجية وإبستمولوجية متنوعة وحداثية، أو من خلال قيم وأنماط من الانتظام والتواصل لا تتعارض طبيعتها الكونية مع مرتكزاتنا القيمية والحضارية، فإن هناك أصواتا "ثقافية" متعددة المصادر والمشارب، تعمل على صد التغير وتروم طريقة السكون والمحافظة.

وتعتبر تحولات المجتمع طوارئ منذرة بتفكك وتلاشي اللحمة الاجتماعية والثقافية. وتظل الفاعلية الثقافية عندنا ملازمة للأزمات والاختلالات الاجتماعية ومواكبة لها، حيث تتحقق المواكبة إيجابا كلما اتجه الفعل الثقافي إلى الجهر بهذه الأزمات وتعرية أسبابها وبيان عواقبها واقتراح سبل صدها ومعالجتها، وتتجلى المواكبة سلبا عندما تتجه الممارسة الثقافية إلى تبرير اللاتكافؤ الاجتماعي والثقافي وتسويغ هامشية بعض التعبيرات الرمزية والثقافية بمسوغات "موضوعية" لا دخل فيها للإرادة البشرية، على الإطلاق.

وإذا كانت الممارسة الثقافية ترجمة لما يعج به الواقع، وتعبيرا عن حركية مجتمعية متعددة الأنماط والأبعاد، فإن تلكم الحركية في منوالها الانفتاحي، وفي جانبها الانطوائي، وفي كل معالمها الصراعية والتوافقية وملامحها التقليدية والتحديثية، هي تعبير عن التحولات القوية التي تميز المجتمع المغربي في الوقت الحاضر، وتجسيد لجملة من الاختلالات البنيوية والظرفية التي تطبع نظامه ومساره.

إن أهمية التغير لا تكمن في معرفة أسبابه الداخلية والخارجية، وفي التحولات التي تصيب الحقول الاقتصادية والثقافية والمجالية، ولا تظهر في التجليات الكمية والكيفية التي تكشفها هذه التحولات فحسب، بل إن تلك الأهمية ماثلة أيضا في ما يحصل من تجدد وانتقال في نسق القيم وفي أنماط التعبئة والانتظام الاجتماعي، وفي طرق وأساليب التواصل التي تقترن بها كثير من العلاقات والروابط المختلفة داخل المجتمع.

إن عملية التغير لا تحصل بصورة نمطية ولا تتم وفق إسهامات اجتماعية وثقافية وأخلاقية متجانسة ومتشابهة، بل إنها تعبير عن تفاوت المصالح وتضاربها وتنازع الأولويات والتطلعات وتمايزها.

كما أنها تجسيد لتراكمات يظهر مفعولها على الإنسان والمجال إن سلبا أو إيجابا، إلى الحد الذي تترتب فيه عن ذلك اختلالات وأزمات هي من قبيل التفاوت بين الفئات الاجتماعية والتباعد بين الجهات والمناطق في التهيئة والتجهيز والعمران، أو من قبيل التضارب بين القيم والمرجعيات الثقافية والرمزية، ناهيك عن إشكالية الملاءمة بين مواطن التقليد ومعالم الحداثة، وعن الضعف البين في بنيان ووظيفة النسيج المؤسساتي والقصور الواضح في خدمات المرفق العمومي والتدني البارز الذي تجسده مؤشرات التنمية البشرية.

وتتحدد قيمة المعالم المؤسسة للسياق الذي نعالجه ـ أساسا ـ في رسمها لحيوية هذا السياق، سواء في الحركية الدؤوبة التي تميز مختلف عناصره، أو في التناقضات المختلفة التي توسع دائرته وتنمي طاقته وتجددها.

ومن هنا، فإن حركية السياق السوسيوسياسي تفيدنا في تلمس مدى ارتقاء المسألة التربوية لتكون عاملا من العوامل المجسدة لهذه الحركية، وقطبا يتمحور حوله شطر من الدينامية المجتمعية في منواليها السياسي والثقافي.

إن فحصا دقيقا لهذه القضية يبين اقتران المنظومة التعليمية في أهم جوانبها بملابسات الحقل العمومي المغربي، وهو أمر لا ندركه فقط في الحاجة المجتمعية المتواصلة إلى إنتاج النخب السياسية والإدارية والفكرية، بل إننا نستشفه أيضا في الدور المزدوج للمدرسة، والمتمثل في انشراط مدها التحديثي بممارسات تربوية/اجتماعية تروم إعادة إنتاج الشروط الثقافية والأخلاقية المغذية لبعض أنماط العنف الاجتماعي أو لبعض أشكال الإقصاء الثقافي والإيديولوجي.

وإذا كان الرهان حول المدرسة لا يقف عند حاجة الترقي الاجتماعي بمفردها، فإن المطلب الثقافي والسياسي لهذا الرهان هو الذي يمنح للنسق التربوي إمكانية تدبير القيم وفق الأوجه المختلفة والمتفاوتة التي تستوجبها عملية التدبير، ومن خلال الطاقات التربوية والمعرفية والبشرية التي يتوفر عليها هذا النسق.

ومن المؤكد أن مفعول هذه الوظيفة لا يتجلى في تنمية وتفعيل الطاقات الأساسية للسياق السوسيوسياسي فقط، بل إنه يظهر كذلك في تنامي وتوسع النقاش العمومي حول المدرسة وحول مهنة التدريس بالتحديد، والذي تساهم فيه الدوائر المؤسساتية الرسمية وعناصر الحقل السياسي والأنسجة الجمعوية والمدنية وأطراف النخبة الفكرية. إننا على وعي بالعلاقة الوثيقة بين هذا النقاش وتداعيات المنظومة السياسية المغربية.

فبقدر ما تجعله ممتدا ومتشعبا وخصبا في لحظات معينة، بقدر ما تؤول به في لحظات أخرى إلى انحسار وجزر ومحدودية، خاصة عندما تركن المكونات الوازنة لهذه المنظومة إلى رهانات ضيقة لا تراعي الحاجات التربوية الموضوعية للمجتمع ولا تقيم لها حسابا.

ولكن الأهم في كل ذلك هو انبثاق قضايا حقيقية يستمد منها هذا النقاش مبرر وجوده واستمراريته وتطوره. فإذا كانت قضية الإصلاح والتجديد التربويين هي أم القضايا في هذا الباب، فإن الاختيارات الأساسية التي ينبغي أن يرتكز عليها الإصلاح، والإمكانيات الضرورية التي يجب أن تتوفر له والاستراتيجيات البيداغوجية والمعرفية والقيمية التي ينبغي أن يسير على منوالها، هي باقي القضايا التي تجسد مشروعية هذا النقاش، خاصة وأن بعض منطلقاته وتفاعلاته تستحضر أزمة المنظومة التربوية وتعتبر المنوال المؤسسي المتطور والبحث العلمي المتنامي والموارد البشرية المؤهلة أسسا ضرورية لتجاوزها.

ولن نكون مجانبين للصواب إذا اعتبرنا النقاش العمومي حول القضايا التعليمية بوجه عام طافحا بأبعاد تجسد وعيا متقدما بالمسألة التربوية، خاصة عندما يراهن هذا الوعي على المدرسة كموقع ملائم وضروري للنهوض بثلاثة مطالب أساسية:

1ـ مطلب الهـوية الثقافية والحضارية المجسدة لتداخل بناء وخلاق بين الخصوصية والكونية.

2ـ مطـلب التجديد المبني على الإقـرار بالتنوع والاختلاف كمقدمة لوحدة قوية ومتماسكة، والقـائم على التشبث بشروط الترقي الاجـتماعي والثقافي والإقدام على نفي التفاوت بين الناس في الجوانب الاجتماعية والمجالية والثقافية.

3ـ مطلب توظيف العمل البيداغوجي ـ في أغلب حيثياته ـ لتشييد مواطنة تتجلى منطلقاتها في تلمس الرابطة بين الحقوق والواجبات، بين قيمة الذات وقيمة الآخر، وتتضح أبعادها في الإعداد والتأهيل من أجل خدمة المرفق العمومي.

ومن المؤكد أن التراكمات التاريخية والمواصفات الاجتماعية والثقافية المتعلقة بالسياق السوسيوسياسي قمينة بأن تثير المهتمين والدارسين من مختلف الحقول والتخصصات وتدفعهم إلى استجلاء أعماقه ومعانيه، وتفكيك تحولاته واختلالاته، وتلمس أهم الأبعاد التي تصب فيها حركيته.

ولكن أهمية كل ذلك تزداد عندما ينزع الحقل التربوي بالمغرب إلى استحضار واستثمار المعالم الكبرى والمتغيرات القوية لهذا السياق في تحديد الوظائف المتعددة والمتمايزة للمنظومة التعليمية، وفي رسم الاختيارات البيداغوجية والثقافية وتحديد السمات "المطلوبة" للنظام المدرسي.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال