لعل تعريف الثقافة من أكثر الأمور تعقيداً لما يرتبط به من اختلاف الآراء حوله، فعلى سبيل المثال" جمع كل من العالمين الأميركيين "كلوكهون" و"كروبير" أكثر من 150 تعريفاً للثقافة، ثم خرجا بعد ذلك ليقررا أنهما لم يجدا في أي منها تعريفاً شاملاً وخالياً من النقص"([1]).
ومع ذلك فهناك من يعرف الثقافة بأنها:
"منظومة متكاملة تضم النتاج التراكمي لمجمل موجات الإبداع والابتكار التي تتناقلها أجيال الشعب الواحد، وتشمل بذلك كل مجالات الإبداع في الفنون والآداب والعقائد والاقتصاد والعلاقات الإنسانية، وترسم الهوية المادية والروحية للأمة لتحديد خصائصها وقيمها وصورتها الحضارية وتطلعاتها المستقبلية ومكانتها بين بقية الأمم"([2]).
على الرغم من أن هذا التعريف يفي بالغرض، إلا أنه تعريف أكاديمي يصعب على المتلقي العادي فهمه. يعرّف الكاتبُ الثقافةَ لطلابه بأنها (ذلك الحاجز الزجاجي اللامع الذي نصطدم به في بعض الأوقات ونحن نطل على بضاعة أعجبتنا في أحد المحال الكبيرة، فهي لجودة صقلها تبدو كأنها غير موجودة) أي أن الثقافة هي الحاجز "غير المرئي" الذي يفرض علينا سلوكا معينا يمنعنا أو يدفعنا إلى اتباعه.
وبهذا المعنى فإن التنمية الثقافية تأتي لتحررنا مما يتعرض له الوعي من الضغوط والإرغامات وسلسلة الفعل وردود الفعل والقرارات السريعة في مواجهة التحديات اليومية أو القادمة، لتعيد لنا تواصلنا مع عالم الثوابت.
إذن من دون أن تفهم هذه العودة فإنها تعني الرجوع إلى الوراء، لكن بمعنى التواصل مع النظرة الأصلية والهادئة بل العادية إلى العالم، والتي تتميز بتأثيرها العميق في الحاضر والمستقبل، ومن ناحية أخرى لتمد جسور التواصل بيننا وبين العالم، في انطلاقة نحو التجديد والتغيير والخلق والإبداع والابتكار.
ومما له أهمية بالغة في هذا الصدد أن نشدد في إطار التنمية الثقافية على أن علاقتنا بثقافتنا العربية/القومية، هي علاقة يجب أن ينظر إليها في ضوء الاستيعاب والتجاوز في آنٍ، "وبنفس القدر من الأهمية تأتي الإشارة إلى أنه في غمار عملية التنمية الشاملة لابد من فضّ الاشتباك بين مفاهيم المعرفة والهوية، فالسباق الهادر نحو المزيد من المعرفة ليس مرتبطاً بأي تنازل فيما يتعلق بالهوية أوبالأصالة"([3]) .
إن هذا الخلط غير الصحي يجعل مناقشة "الثقافة" و"الهوية" و"المعرفة" متداخلة لدى البعض إلى درجة "العمى الثقافي"، فمن المسلم به أن كل المجتمعات المعاصرة مجتمعات متعددة الثقافات، حتى لو بدت غير ذلك على السطح، وأنه لابد من مراعاة هذه التعددية الثقافية في وضع سياسة التنمية والتخطيط لمشروعاتها. و"إن الموقف المحافظ (التقليدي) القديم الذي يؤيد سياسة التباعد أو الانعزال الثقافي عن العالم، إلا إذا كان مشابها لنا، حل محلَّه الآن مبدأ الدمج أو الاندماج الثقافي، وهو الأمر الذي يتفق مع توجهات العولمة"([4]) أي الحديث عن "النسيج" الثقافي متعدد الألوان؛ "قوس قزح" اجتماعي، تتعدد فيه الألوان مع انسجامها في "الصالح العام" الذي يمثل العام والجوهري، ويسمى في بعض الأوقات "القانون".
"ولذا فإن التركيز على الحريات الثقافية في المجتمعات المعاصرة متعددة الثقافات يستلزم إتاحة الفرصة للحوار، خصوصاً في ضوء التحركات البشرية والهجرات الواسعة التي يشهدها العالم المعاصر بسبب سهولة الحصول على المعرفة من كل أنحاء العالم عن طريق الصحف والإنترنت"([5]). وهذا يتعارض من دون شك مع سياسة الانعزال والانطواء، أو الانغلاق الثقافي بحجة المحافظة على الهوية الثقافية. وهنا لابد أن أشير إلى ملاحظتين مهمتين:
الملاحظة الأولى:
إنَّ أصالة الثقافة لا تعني كشوفات الماضي الثقافي، أو الإبحار في تعريض الواقع الثقافي القائم إلى العزلة، بقدر ما تعني الانطلاق منها متسلحين بإيجابياتها من أجل توليد ثقافة أصيلة جديدة ومتحركة. فالأصيل في الثقافة هو الجهد الذاتي لأبنائها، وهذا الجهد لابد من أن يستمد نسخة من الماضي والحاضر وتلاقح الثقافات بين الشعوب، أي بالتفاعل مع هذه الثقافات وعدم طغيانها علينا أو استسلامنا أمامها"([6]).
الملاحظة الثانية:
إن الإنسان العربي الخليجي قد صيغ ثقافياً قبل النفط، لأنه كان إنساناً منتجاً بشكل مباشر، والإنتاج حالة صياغة بحد ذاتها، ولكنه بعد النفط أصبح مستهلكاً لأنه يعيش على دورة الإنتاج النفطي، وليس على الإنتاج نفسه فهو لا يساهم فيه بشكل مباشر، في حين إن عملية الإنتاج التي تتم جهدياً تنمي قيم الإبداع والابتكار لدى المجتمع.
ومن ثم فلن نتمكن من تأصيل هوية ثقافية عربية خليجية لها خصوصيتها ما لم يرافق ذلك إدراك واضح لصورة المستقبل، لأجل خلق فرص إنتاج ومساهمة حقيقية في الثروة، ومن هنا تنبع مسؤولية المخططين لإستراتيجية الثقافة على مستوى دول مجلس التعاون لدول الخليج العربي.
صياغة هذه الإستراتيجية للثقافة، المبدعة، وهي القائمة على المساهمة الإنتاجية المنفتحة على العالم والثقافات الأخرى، لم يتم الانتباه لها. وإذا قدرنا أن تسير على ما نحن عليه اليوم، فإننا سنصل إلى عام 2025 وأصوات "الانقطاع" و "الاعتزال" أعلى من أصوات "التواصل"، وعلى ما يتخذ من سياسات ثقافية اليوم يعتمد ما سوف تكون عليه ثقافتنا في ذلك اليوم القريب، البعيد..
([1]) إشكالية الثقافة في عصر العولمة، ورقة بحثية للدكتور/ أحمد دعدوش ، ص 1
([2]) العرب والعولمة .. شجون الحاضر وغموض المستقبل ، تأليف / محمد علي حوات ، مكتبة مدبولي ، القاهرة، 2002م، ص 174
([3]) دور المؤسسات الأهلية في التنمية الثقافية -الإمارات نموذجاً - ورقة لكامل يوسف حسين مقدمة إلى ندوة "الثقافة والتنمية - الفترة من 26- 28 نوفمبر 2007م، مهرجان القرين الثقافي الرابع عشر ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2007م، ص 2
([4]) الثقافة ومسيرة الإنسان، عرض نظري : للدكتور/ أحمد أبو زيد، ورقة مقدمة إلى ندوة "الثقافة والتنمية" مهرجان القرين الثقافي الرابع عشر، الكويت، 26-28 نوفمبر 2007م، ص8
([5]) د. أحمد أبو زيد ، الورقة السابقة، ص 15
([6]) الإعلام والهوية الثقافية للمجتمع العربي في الخليج، ورقة الدكتور/ محمد الرميحي ، مقدمة إلى ندوة "الثقافة والإعلام في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية (الملتقى الفكري الثاني) منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ديسمبر 1994م، ص 190 - 191.
التسميات
مستقبل الخليج