الأسس المعرفية للكفايات.. قدرات عقلية باطنية تقود في سباق عملي إلى إنجاز مهام معينة أو حل مشكلات خاصة

يعتبر مصطلح "الكفايات" مصطلحا شائعا بين علوم ومجالات مختلفة بما فيها مجالات التربية وعلم النفس وميادين المقاولات وتدبير الموارد البشرية[1].

ومن ثم، يختلف تعريف مفهوم الكفاية من مجال إلى آخر تبعا للخلفية المعرفية الضرورية لكل حد.
بيد أن هذا الاختلاف الذي يتوزع بين المنظورين السلوكي والمعرفي لا يلغي أهمية المنظور المعرفي التالي:

الكفاية Competence or competency)) بما هي قدرات عقلية باطنية تقود، في سباق عملي، إلى إنجاز مهام معينة أو حل مشكلات خاصة.
وهي بذلك تنمو وتكتسب في اتجاه تجميع الفرد لحصيلة كافية من المهارات (skills) والمعارف القابلة للملاحظة والتقويم.

نستنتج من الحد السابق أن "الكفاية" استعداد باطني ذهني لايجب الخلط بينه وبين "المهارة" التي تمثل المستوى الإنجازي للكفاية والقابل للتقويم.كما أنها، أي الكفاية، لاتدخل في باب الملكات الأفقية أو المقدرات الثابتة (capacities) مثل الذاكرة والخيال والانتباه والسمع ...إلخ.

غير أن هذه المفاهيم المميزة للذكاء الإنساني توسم، بوصفها ظواهر معرفية، بالتفاعل وليس بالتراتبية كما تصور ذلك الباحث محمد امزيان (2004))[2] لأن المكونات المعرفية متشابكة العلاقات (تفاعل القوالب: تشومسكي 1981 و 1982 و 1996 ومبدأ المرآة: بيكر 1985 وكريمشاو 1986).

إن الكفايات بالمعنى السابق مرتبطة أساسا بالذكاء الإنساني المتعدد والدينامي مما يجعل مقاربتها ووضع تصور دقيق بشأنها لا يخرجان عن التحليل المعرفي (cognitive) للبنيات الذهنية الإنسانية التي تؤطر معمارها "المقولات" (categories) و "الأطر" (frames).
فما هي خصائص تلك المقولات والأطر المميزة للذكاء الإنساني ولكفاياته المتعددة والمرتبطة ببناء المعرفة؟

تلعب المقولات دورا أساسيا في بناء المعرفة البشرية، لأن معظم تفكيرنا لا ينصب على المفردات والعناصر في ذاتها، ولكنه ينصب أساسا على المقولات. وبذلك لا تقبل الدلالة المعرفية اعتبار المقولات التصورية مرتبطة مباشرة بأشياء في العالم الموضوعي.

ذلك أن حالات مختلفة يجب مراعاتها؛ وهي دور الأنماط التخييلية للذهن ( التنظيم الإطاري والاستعارة والكناية...) في تحديد طبيعة المقولات، إضافة إلى طبيعة الجسم الإنساني (الكلام والإدراك) التي تحدد بعض أنماطها[3].

وفي الحالتين معا، ليست المقولة انعكاسا أو تمثيلا للواقع، بل إن الجسم الإنساني وقدراته التخييلية، يساهمون أساسا في تحديدها، خاصة أن مفهوم "واقع المتكلم" (فوكونيي 1984) يقتضي أن لا تعقد الروابط التداولية علاقات بين الواقع في ذاته والتمثيلات، بل إن هذا الواقع نفسه تمثيل ذهني للعالم الخارجي لدى المتكلم الذي قد يخطئ في إسناده بعض الخصائص إلى الأشياء الموجودة في العالم الطبيعي.[4]

ولإبراز طبيعة العلاقة بين العالم- الشيء وخصائصه ميز الفلاسفة بين الخصائص الأساسية والخصائص الثانوية. فالأولى تمتلكها الأشياء باعتبارها جزءا من طبيعتها، أما الثانية فهي المنسوبة للأشياء بفعل تدخل جهازنا الإدراكي.

ومن ثم، يدافع لايكوف (1988) عن الخصائص الثانوية المميزة لمقولاتنا الذهنية انطلاقا من القول بأن مقولة[ اللون ]، مثلا، لا توجد موضوعيا في العالم، بل تحدد بواسطة الجهاز العصبي - الفيزيولوجي، وبواسطة الأدوات المعرفية الكلية، إضافة إلى الاختيارات الثقافية المحددة.

وهكذا، فمقولات اللون مقولات غامضة في حدودها المقولية، مادامت تتغير بشكل كبير من ثقافة إلى أخرى، مع العلم أن الألوان المركزية لا تتغير كثيرا، لكن تطرأ عليها تغييرات بفعل التحديدات الثقافية.

ومن هنا، فتبني أطروحة الخصائص الثانوية ينسجم ومنظور المعرفة التجربانية الذي لا يفصل العالم الخارجي عن التجربة الإنسانية وما يترتب عنها من بنيات معرفية دون أي إغفال لدور التفاعل بين الخصائص الأساسية والثانوية وأهميته في إنتاج المعرفة الإنسانية.

وإذا كان للمقولة مستوى أساس (Basic level)، فإنه ليس المستوى الأعلى الذي تقل فيه المقومات المشتركة بين موضوعا ته من قبيل "إنسان"، "حيوان"، "أثاث"، ولا المستوى الأدنى الذي يكرر معظم المقومات المشتركة ويضيف إليها بعض المقومات الخاصة المتعلقة بموضوعات مثل "كلب السباق"، "سيارة رياضية"، "علي"،  "كرسي متحرك"...، بل إنه في وضع وسط معرفيا.

ذلك أن المستوى الأساس المناسب للمقولة [قط]، مثلا، هو الذي يتفاعل فيه الإنسان مع محيط القطط،  فيطور ويخزن المعلومات بشكل فعال.

وهذا يعني أن هذا المستوى الأوسط يرتبط بالإدراك، حيث نجد الشكل المدرك كليا والصورة الذهنية المفردة والتعيين الثابت.
كما يرتبط بالوظيفة؛ أي بالبرامج المحركة العامة، وبالوظائف الثقافية العامة كذلك، إضافة إلى أنه يتوفر على خاصية تواصلية من خلال توظيف الكلمات المشتركة، بالنظر إلى كونه أول ما يتعلمه الأطفال، ومفتاح الدخول إلى المعجم، وله علاقة بالتنظيم المعرفي.

وإذا اعتبرنا معرفة العالم وامتلاك كفايات لحل المعضلات انطلاقا من مهارات خاصة كلها عمليات معرفية تتم من خلال مقولات باعتبارها صورا ذهنية، فإنها، أي تلك المقولات، مرتبطة أساسا بالتجربة الإنسانية و بالمجال الخاص؛ فالمقولات الخاصة بكفايات النجارة وكفايات رياضة كرة القدم مختلفة، بالضرورة، عن بعضها بعض.

غير أن تحديد المقولات يستند إلى الأطر (Frames or Schemas) التي ترتبط بمفهوم النماذج المعرفية المؤمثلة (IC Ms). ذلك أن الإنسان ينظم معرفته بواسطة معاني بنيات تمثلها تلك النماذج باعتبارها تنظيما تنتج عنه البنيات المقولية وآثار الشاهد الأمثل (Prototype).

ومن ثم، فكل نموذج معرفي مؤمثل يبنين فضاء ذهنيا بالمعنى الذي يقدمه فوكونيي (1984).
ولذلك تشكل مباحث الأطر والاستعارة والكناية الأصول الأساسية لمبحث هذه النماذج. ومن الأمثلة التي تتداولها الدلالة المعرفية بخصوص هذا المفهوم، تحديد ماهية أحد أيام الأسبوع (الأربعاء، مثلا) الذي لايمكن معرفة معناه إلا بمعرفة ماهية الأسبوع وكيفية تبنينه.

ذلك أن الأسابيع - الإطار ليست شيئا موجودا في الطبيعة، فلا يمكن تقديم تعريف موضوعيا ني يحددها، خاصة أن الثقافات تختلف في تصورها لمفهوم اليوم والأسبوع... أي المسافة والامتداد. فيترتب عن ذلك أن الأسابيع - الإطار إبداع تخييلي للذهن الإنساني مرهون بالروابط التداولية أي بالشروط الثقافية والاجتماعية.

وهكذا، تعتبر تلك البنيات التخييلية أطرا يكمن فيها أساسا واقعنا الثقافي الخاص، كما تؤكد ذلك الأنتربولوجيا المعرفية المعاصرة، كما أنها تمثل آليات معرفية أساسية لتنشيط مختلف الكفايات.وهذا يعني أن الذكاء الإنساني بقدر ما يمتاز بتنوع المجال وتنوع الشروط الثقافية، بقدر ما يتنوع بتنوع سياقات المجال الواحد نفسه، وبتعدد حالات الفرد الواحد نفسه كذلك.

وعليه، يمكن اختبار التضمين التربوي لنظرية الذكاءات المتعددة (multiple intelligences، جاردنر 1984) التي تؤكد وجود عدة قدرات فكرية إنسانية مستقلة نسبيا عن بعضها بعض، بحيث يمكن تحديد صورة الفرد الفكرية في وقت مبكر مما يسمح بتعزيز الاختيارات والحظوظ التربوية للفرد أي التنبؤ بمستقبله التربوي.

[2]- أمزيان، (2004)، ص.77.
[3]- لايكوف(1988)، صص.130_131.
[4]-  فوكونيي (1984)، صص.30-31.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال