لقد أكدنا في سياق الحديث عن الأسس المعرفية للكفايات أن كل كفاية مرتبطة بالذكاءات المتعددة للفرد بالنظر إلى تعدد وضعيات النشاط الواحد.
وهذا ما يجعل منظور تعدد القدرات الإنسانية يتجاوز المفهوم الأحادي لاختبارات الذكاء بناء على تعدد الإيواليات المعرفية والثقافية والبيولوجية ذاتها.
وهو ما يسمح، في نظر جاردنر(1984)، بتوجيه الأنتربولوجيين تربويا نحو صياغة نموذج لكيفية تشييد القدرات الفكرية ضمن أوضاع ثقافية متعددة.
غير أن متغير الثقافة أو المحيط هو في الأساس تحيين للبرامج الوراثية الكامنة في جهازنا العصبي.
فنتائج علوم الوراثة والكيمياء الحيوية وفيزيولوجيا الأعصاب تمدنا بمعلومات بيولوجية هامة عن تطوير الذكاءات الإنسانية.
لقد ركزت المباحث البيولوجية على مبدأين أساسيين:
1- مرونة النمو الإنساني (flexibility of human developpment) حيث يمكن تغيير القدرات العقلية للإنسان أو لمجموعة بشرية بواسطة عدة تدخلات.
2- طبيعة أو هوية القدرات الفكرية الإنسانية التي ترتكز على أجزاء مختلفة من أجهزة الجهاز العصبي والتي بإمكانها تنفيذ وظائف فكرية خاصة لتكون ملائمة لسلسلة من العمليات الفكرية.
ومن ثم، يرتبط الاهتمام "بالهوية" بحاجة الباحث البيولوجي إلى العناية بالاختلافات الواردة بين بعض القدرات مثل اللغة التي تتطور في اتجاه درجة عالية لدى أفراد عاديين بينما نجد، في المقابل، قدرات أخرى مثل الموسيقى تؤشر على اختلافات هامة في درجات الإتقان تميز الإنجازات الفردية.
إن أهم نتيجة مترتبة عن هذا المنظور البيولوجي هي أن "المطاوعة" و"المرونة" (Plasticity and Flexibility) تميزان النمو البشري خاصة في بداية حياة الفرد. فهما خاصيتان مقولبتان (Modulated) بواسطة قيود تكوينية خاصة.
وبذلك فالوجود البشري من زاوية مفهوم "الهوية" مستعد بشكل مسبق إلى تنفيذ بعض العمليات الفكرية الخاصة التي يمكن لطبيعتها أن تستخلص من الملاحظات والتجارب، مما يعني أن الجهود التربوية يجب أن تبنى بالنظر إلى معرفة هذه النزعات الفكرية ومظاهر "مرونتها ومطاوعتها".
وهذا ما يقود إلى ضرورة الانتباه إلى العناصر الوراثية في المكونات البيولوجية للقدرات.
فكل عمل ينوي الفرد إنجازه يكون على حد تعبير جاردنر، مشفرا داخل جسدنا التكويني. لكن يجب الانتباه إلى التمييز الوارد بين "البنية الوراثية" أو "الطرازالعرقي" (Genotype) و "الطراز العرقي في المحيط" (Phenotype).
فالأول هو عبارة عن بنية وراثية للفرد أو لطبقة من الأفراد تشترك في تركيب وراثي خاص. أما الثاني، فهو مجموعة من الخصائص الوراثية الفردية - الجماعية المطبقة في محيط معين أي المحينة بواسطة قيود وشروط بيئية معينة.
فمن شأن هذا التمييز الدقيق بين البنيتين الو راثيتين أن يساعد الباحثين على التحديد الدقيق للثابت والمتغير في حياة الأفراد الفكرية والسلوكية.
ذلك أن لبعض الأفراد قابلية أكثر من غيرهم، بحكم طبيعة التأليف الو راثي لديهم للإصابة ببعض الأمراض مما يسمح بالتدخل لتوفير بيئة استشفائية لهم، وهناك آخرون يعدون ببعض المواهب التي لا يمكن أن تتطور وتنمو إلا بوجود شروط بيئية ملائمة.
فاللاعب الماهر الموهوب في لعبة الشطرنج لن يكون على الدوام ماهرا بدون المنافسة والاحتكاك البيئي مع الأبطال[1].
ومن هنا، يمكن الحديث عن قيود وعلامات للذكاء الإنساني تستلزم مجموعة من القدرات الفكرية التي تمكن الإنسان من حل مختلف المشكلات أو الحبسات المحيطة به، بل هي قدرات تمكن كذلك من خلق المسائل وتنشيطها في سياق اكتساب معرفة جديدة مع إمكان تعطل تلك القدرات لسبب من الأسباب.
وبذلك يتوفر الذكاء الإنساني، حسب جاردنر، على معايير من قبيل إمكانية عزل الملكة نتيجة عطل أو خلل دماغي، وهو ما يؤشر على الاستقلال النسبي لتلك الملكة عن غيرها من الملكات المحوسبة في نسيج الذكاءات المتعددة.ومن بين تلك المعايير، كذلك، وجود العلماء لبلهاء والعباقرة والأطفال الغارقون في الخيال، إضافة إلى توفر الذكاء الإنساني على بعض الإيواليات التي تعالج مجموعة من المدخلات.
وهو ما يجعل هذا الذكاء عبارة عن إيوالية عصبية أو نسق حاسوبي (Computational System) مبرمج وراثيا بحيث ينشط بواسطة بعض المعلومات الحاضرة داخليا أو خارجيا.
ومثال ذلك الحساسية المتعلقة بتحديد درجات النغم والطبقة الصوتية والعلاقات القائمة بينهما، مما يؤشر على أن تلك الحساسية تمثل دخلا للذكاء الموسيقي (جاردنر 1984.ص.64).
وينضاف إلى ما سبق، أن الذكاء الإنساني يوسم بتاريخ تطوري، ويمكنه أن يرمز داخل أنساق رمزية تدل عليها أساسا اللغة والصورة والرياضيات.
وبهذا المعنى لايمكن حصر لائحة الذكاءات الممكنة، ولايمكن اعتبار الذكاء معادلا لنسق حسي معين لأنه يتحين داخل أكثر من نسق حسي. كما أنه من الضروري النظر في كل ذكاء على حدة بوصفه عملية خاصة لها أسسها البيولوجية الخاصة.
ثم إن كلمة ذكاء لا يجب أن تخضع لحكم القيمة بالحديث دائما عن ذكاء إيجابي بل على العكس من ذلك يمكن لبعض الذكاءات المنطقية _الرياضية أو اللغوية أن توظف لأغراض شنيعة.
والذكاء بعد كل ذلك، هو بمثابة إمكان أي قدرة محتملة لأن الفرد المتوفر عليها قد لا يوظفها مما يجعله برنامجا للعمل(Program of Action )[2].
إذن، وضع مفهوم الكفاية في سياق الأسس المعرفية والبيولوجية والثقافية يمكننا من التحديد الدقيق لطبيعة الكفايات التي يحتاجها الفرد والجماعة داخل منظومة اجتماعية معينة في فترة تاريخية خاصة. بيد أن استراتيجية التدريس بالكفايات لايمكن عزلها عن المضامين والمعارف التي تتوفر عليها برامج التدريس.
ومن ثم، تأتي أهمية البحث في بعض المفاهيم اللسانية والبلاغية وتقديمها بشكل يلائم حاجات التكوين المستمر الذي يعتبر عصب التطور الخاص بالعملية التعليمية.وبذلك يجد القارئ في القسم الموالي دراسة بعض المفاهيم التي سنستثمرها خلال تحديدنا للكفايات البلاغية.
[1]- جاردنر(1984)، صص.34_35.
[2]- المرجع نفسه.ص.68.
التسميات
أسس الكفايات