يعتبر التعليم والتعلم من جهة، والبحث العلمي من جهة أخرى، العنصرين الرئيسيين في عملية تطور المجتمعات التي شهدت تغيرات كبيرة نتيجة الإنجازات العلمية المذهلة التي تحققت في القرن العشرين، ومن المتوقع أن تؤدي السرعة الحالية في تطور الابتكارات العلمية إلى تحقيق إنجازات قد تفوق التصور وتتجاوز الحدود التقليدية المعروفة في الواقع من منظور العلمية التعليمية، خاصة في استخدام التقنية "الإنترنت وتوابعه" في العلمية التعليمية. وهو ما سوف ينعكس خلال السنوات القادمة على النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في دول الخليج العربي.
ويُقاس تقدم الشعوب بمستوى تعليمها، ويخضع التعليم في كل فترة زمنية إلى التطوير ليكون مواكباً لتطورات كل عصر،حتى الدول المتقدمة صناعياً ترى في إصلاح التعليم ضرورة مهمة للوصول إلى الأهداف الاجتماعية والاقتصادية المرجوة.
وثمة ثلاثة شعارات متداولة في العالم المعاصر، وهي الاستقلال، والتنمية، والتحديث. وتؤكد جميع المجتمعات الحديثة والنامية ضرورة الاستقلال كأهم شرط يتطلبه وجودها. أما التنمية فترى فيه الأقطار المستقلة حديثاً وسيلة لرفع مستوياتها الاقتصادية والتكنولوجية والصحية والثقافية. وتؤكد جميع المجتمعات النامية ضرورة عملية التحديث كأسلوب يتوقف عليه تحقيق الانسجام بين التقاليد السائدة والمفاهيم الثقافية المتطورة، التي ينادي بها حملة مشعل الثقافة الحديثة. "ومع ذلك فإن مفهوم التحديث لا يزال محاطاً ببعض الغموض لأنه قد يعني في بعض المجتمعات دعم القديم والسعي لتنقيته من الشوائب التي ترسبت فيه بسبب اجتهاد المجتهدين المحافظين ثقافياً. وهو قد يعني تحرير العقائد الدينية الأصلية من الخرافات التي أضيفت إليها في أزمنة قريبة" أو بعيدة، ومهما يكن عليه التحديث من تنوع في المعنى فإن المجتمعات النامية الهادفة إليه لا تستطيع أن تستغني عنه لصلته القوية بتطوير التعليم في مراحله الرسمية المختلفة.
إلا أن مفهومي "الاستقلال" و"التحديث" سيجري لهما تغيير في المعنى، فلن تبقى فكرة "الاستقلال" كما هي اليوم بعد أن يمر زمن وتتغير ظروف اقتصادية وسياسية، تكون معها دول الخليج قد وصلت إلى قناعة أن "الاستقلال" لا يعني التفتت، ولا ينسجم التحديث مع الإبقاء على ممارسات اجتماعية معطلة للنمو.
فتدني الجودة والكفاءة فيما يقدم من تعليم، وضعف التقاليد الأكاديمية وضعف المشاركة المجتمعية من حيث الإشراف والتخطيط والرقابة والمحاسبة على العملية التعليمية من أجل تجويدها، ولدت لنا صورة سلبية لواقع العملية التعليمية في دول الخليج العربي.
"لقد أدت كل تلك السلبيات إلى تردي التعليم العالي بشكل عام، وإلى تخلف على مستوى المقارنة العالمية بين المنتج هنا والمنتج في عواصم العالم المتقدم، وعجز عن استثمار رأس مالها البشري لتوظيفه التنافس الدولي الذي يعيشه العالم بشكل مكثف منذ ثلاثة عقود على الأقل، ولقد تطورت وسائل الاتصال ونقل المعلومات بشكل يفوق الخيال، وما يتبع ذلك من توجه متزايد نحو العولمة في الاقتصاد والسياسة والثقافة" والتي
-من الناحية النظرية على الأقل - تتيح المجال المتساوي للجميع للبروز، والاستفادة المتكافئة من هذه الفرص حسب ما تقوم به كل دولة من تجويد لأنظمتها السياسية والاقتصادية والإدارية والتعليمية والقضائية، وما ينتج عن ذلك كله من مجمل (التكون الثقافي) للأفراد والمجتمعات المتوجهة نحو الإنتاج والمشاركة الإيجابية والإبداع والتميز والنجاح في التنافس الدولي، والقدرة على الحوار واستيعاب الاختلاف والتعايش المتناغم مع الثقافات الفرعية داخل كل دولة والثقافات المختلفة بين الدول والمناطق الحضارية المختلفة.
إن استمرار الصراعات في العديد من أنحاء العالم واتساع الفجوة بين الدول المتقدمة والدول النامية يستدعي ضرورة تحديد أهداف التعليم ومخرجاته في دول الخليج، حيث لوحظ تركيز الجهود المبذولة في هذه الدول على الجانب الكمي الذي جاء على حساب الجودة والنوعية في مجال التعليم، وذلك بسبب التزايد المستمر في عدد السكان من جهة، وضعف الموارد المخصصة نسبيا للتعليم والتدريب والتعليم المستمر من جهة أخرى، أو هدرها.
ومن ثم فلابد من التركيز هنا على دراسة التحديات الداخلية التي ستواجه دول الخليج العربي خلال العقدين القادمين من منظور التعليم والبحث العلمي.
خلال ثلاثة عقود مضت ونتيجة لما اتخذ من سياسيات في قطاع التعليم، فإن المجتمع الخليجي، من حيث التعليم، انقسم إلى فئتين الأولى: "خريجو الجامعات والمدارس الحكومية التقليدية"، والثانية خريجو "الجامعات ذات المنهج الغربي المطعم" سواء في دول الخليج أو في الخارج. والمعركة قد تكسبها بعد حرب ضروس، الفئة الأخيرة بسبب حصولها على "معرفة ومهارة وموقف من الحياة إيجابي و"أفضل بكثير" مما هو سائد، وما أتاحه لها تعليمها المتقدم من قدرة على فهم التطور العالمي، وبالتالي فإن هذه الفئة هي التي أخذت الصدارة في الحياة الاجتماعية والسياسية، إلا أن التعليم العام سوف يحصل - نتيجة التنافس- على قدر من "المنهج الجديد" في المناهج، وقد يكون ذلك بعد "ثورة" في التعليم الرسمي نشهد بعض إرهاصاتها اليوم كما نشهد مقاومة مجتمعية لها في الوقت نفسه.
وبناء عليه.. فإن دور كل من المعلم والطالب والمدرسة في إطار البيئة التعليمية في القرن الحادي والعشرين سيختلف كثيراً عما كان عليه في السابق، أو ما نعرفه اليوم. وسيكون على المعلمين أن يتقنوا المهارات الذاتية والمهنية الجديدة لتغيير الصورة التقليدية للمعلم التي تعتمد على السبورة، وفكرة التلقين، وعدم اعتماد الحوار مع الطلاب، وإعداد الطالب لأن يعلم نفسه على عكس السياسة التقليدية المتبعة.
على نتائج هذه المعركة سوف يتحدد مستقبل هذه المنطقة، إما إلى أن تكون دولا تقليدية محافظة، وعند انخفاض أسعار النفط تكون بشكل ما "عالة على المجتمع الدولي"، وإما أن تصبح كما وصفتها إحدى التقارير "الخليج الخصيب" من خلال تدريب متقدم للكوادر، واستخدام بعض الفائض المالي لتطوير المعرفة.
وكذلك بالنسبة إلى الطلبة فلم تعد المعلومات تقتصر على "الحشو" الموجود في الكتب الدراسية والحفظ للمقررات فقط، بل أصبح بإمكانهم التدرب على اختيار نوعية جديدة من المعارف والمعلومات التي تنمي ملكة التفكير الابتكاري، والقدرة على النقد البنَّاء، وطرح رؤى وأفكار مغايرة ولكنها مفيدة وفاعلة في العملية التعليمية، وسوف تستخدم طرق جديدة للتعليم منها الاستخدام الواسع لشبكة الإنترنت والتعليم عن بعد.
ولعل المشكلة التي تواجهها الآن دول الخليج العربي هي تلك الزيادة في أعداد الطلاب المصاحب لنمو السكان وتعدد "الثقافات" المختلطة، نتيجة وجود سكان من بيئات مختلفة، وكذلك نمو المؤسسات التعليمية المختلفة في مستويات الجودة، حيث أصبح ما يقرب من خمسين جامعة وما يزيد عن مئتين من مؤسسات التعليم العالي الأخرى من كليات متوسطة أو معاهد عليا أو كليات جامعية مستقلة، (وهو رقم يقارب رقم المؤسسات التعليمية العربية الرسمية عام 2008). ورغم هذا النمو المؤسسي إلا أن الزيادة في أعداد الطلاب في دول الخليج لن تستوعبها تلك المؤسسات التعليمية في عام 2025، إلى جانب عدم تلاؤم الدراسات أو المناهج مع متطلبات التنمية المجتمعية المتسارعة في دول المنطقة. مما أحدث في السابق ما تسميه الصحافة "البطالة المتعلمة". هذا سوف يدفع أولياء الأمور إلى زج أبنائهم في المؤسسات المحلية والدولية ذات الجودة العالمية في التعليم، ولن يتفاجأ أحد عندما ترتفع أعداد فروع المؤسسات التعليمية الشرقية والغربية لتستوعب الطلب المتزايد على النوعية الجيدة للتعليم.
ومن ثم يجب أن يضع المخططون لدراسات المستقبل موضوع تطوير التعليم في أولويات اهتماماتهم وصلب توجهاتهم، في مراحله ومستوياته المختلفة: الابتدائي، المتوسطي، الثانوي والجامعي، ومراعاة مدى ارتباطه بسوق العمل واحتياجات المجتمع في المستقبل، وتوجيه الطلاب إلى التخصصات المطلوبة مستقبلاً، واكتساب مهارات جديدة ، أي ربط التعليم بالتنمية الشاملة في الدولة. وجعل مخرجات التعليم متوافقة مع متطلبات العملية الاقتصادية والاجتماعية في دول مجلس التعاون الخليجي.
التسميات
الخليج العربي