مجلس التعاون العربي والمستقبل في المنظور الاجتماعي والثقافي.. علم الاجتماع يخطئ إذا سار في إثر العلوم الاجتماعية، أملا في اكتشاف قوانين عامة للسلوك الاجتماعي

يحتاج الباحث المدقق الذي يكتب عن المستقبل وعن التغيرات التي قد تطرأ على الإنسان والمجتمع ونظمه وأنساق القيم فيه، يحتاج إلى إدراك حجم المسؤولية وحُسن التقدير في هذا الجانب، حتى لا يجنح به الخيال في التصور أو الذهاب إلى آفاق بعيدة عن الواقع المادي والاجتماعي من حوله، فتجيء دراسته - حينئذ - أقرب إلى الروايات أو القصص الخيالية التي قد لا تجد لها تمثيلا على أرض الواقع، على نحو ما ذهب إلى ذلك كُتَّاب وأدباء كثيرون في بعض كتاباتهم مثل جورج أورويل George Orwell وأولد هكسلي Aldous Huxley، ممن تعرضوا للكتابة في هذا المجال، أو ما يمكن أن نسميه بالرؤية المستقبلية، التي كانت في كثير منها أقرب إلى الخيال الأدبي الحالم، منها إلى الواقع!! ولو أن هذا الخيال في بعضه أصبح قريبا من الحقيقة.

 فاستشراف المستقبل أو محاولة رسم صورة أو ملامح له بطريقة ما هو موضوع "إنساني" لارتباطه بمصير الإنسان في عمومه، وله علاقة بـ (ينبغيات) كامنة في عقل الكاتب، نابعة مما يريد أن يتحقق أو يرغب في عدم التحقق في المستقبل، أو هي إسقاط مباشر على المستقبل من الحاضر. فالمخاطرة هنا كبيرة.. ومع ذلك فسوف أحاول.

 والباحث في هذا المجال عادة ما يتخذ عدداً من الوسائل والأساليب التي تعتمد في منطلقاتها على "التخمين" أو التنبؤ Prediction ، استطرادا من واقع الحال من أجل استنباط الاتجاهات العامة في المستقبل، أو رسم صورة "عملية" افتراضية لملامح هذا المستقبل، والصعوبة بجانب امتناع موضوعي، تكمن في عدم وجود معطيات يمكن البناء عليها، ولاسيما في الدول النامية عموماً، ودول منطقة الخليج العربي بوجه خاص، حيث نفتقر إلى "قاعدة معلوماتية" قريبة إلى الدقة.

وعلينا أن نتذكر هنا موقفا فلسفيا لباحث بريطاني هو أنطوني غيدنز، أستاذ الاجتماع في مدرسة لندن للاقتصاد، وكان حتى وقت متأخر مستشارا لرئيس الوزراء البريطاني السابق طوني بلير، في نظريته الشهيرة في أن علم الاجتماع يخطئ إذا سار في إثر العلوم الاجتماعية، أملا في اكتشاف قوانين عامة للسلوك الاجتماعي، كما أنه يخطئ إن بقي في إطار الوصف والتفسير للظواهر، فيجب أن ينظر إلى علم الاجتماع بوصفه "نشاطا نقديا"، من هنا فإن "الخيال السوسيولوجي" يلعب دورا هاما في "توقع المستقبليات البديلة". بكلمات: فإن علم الاجتماع من مهامه الرئيسة "نقد الأشكال الاجتماعية القائمة، وتوقع بدائلها".

ويجب التنويه إلى أن البحث في المستقبل في ظل أوضاع تبعث على التفاؤل أو  التشاؤم فيه الكثير من المجازفة، وتزداد هذه المجازفة خطورة في ظل عالم يتسم بثورة المعلومات، وتطور هائل لوسائل التقنية في جميع المجالات، وأن كل شيء في "القائم" من الأمور، عرضة للتغير والتبدل بشكل جذري في غضون سنوات معدودة على أصابع اليد الواحدة على عكس ما يتوقع كثيرون.

  ونظراً إلى أنه من الصعوبة بمكان إخضاع الظواهر الإنسانية والاجتماعية للقياس الدقيق أو "بالمسطرة" - كما يقولون - فإن الحذر أو التحفظ وارد فيما يطرحه الباحثون أصحاب تلك الرؤى أو التنبؤات المستقبلية في المجال "الإنساني" ، أعني مجال الدراسات الاجتماعية والإنسانية بشكل عام.

 ولابد من التسليم بأن النقص الذي تعانيه حقول البحث العلمي في مجال الدراسات الاجتماعية في منطقة الخليج "والمنطقة العربية" فيما يتعلق بإمكانية التنبؤ بدرجة عالية من الضبط والدقة في نتائج أو احتمالات الآراء والمقترحات التي تتمخض عن دراساتها لمشكلات المجتمع، هو الذي يجعل تلك البحوث والدراسات الاجتماعية تتسم بالتخمين أو التقريب في رصدها لأحداث المستقبل، الأمر الذي يجعل عنصر الفشل أو الخطأ في تنبؤاتها أو توقعاتها وارداً.

ولدي ثلاثة شواهد في هذا الموضوع، الأول هو ما كتبه المرحوم فكري أباظة، وهو من الكتاب المصريين الكبار في منتصف القرن الماضي، حيث نشرت مجلة الهلال القاهرية عام 1950 توقعات لكبار الكتاب عن "مصر عام 2000" من ضمن ما توقع، أن تكون بريطانيا مدينة لمصر بمبلغ كبير من الجنيهات الإسترلينية، وأن يصبح عدد سكان مصر عام 2000 ثلاثين مليون نسمة.

حقيقة الأمر أن الجنيه الإسترليني أصبح سبع جنيهات مصرية، ومصر غارقة في الدين الخارجي، وعدد سكانها وصلوا إلى سبعين مليون نسمة!! عندما حل عام 2000 م!!

الشاهد الثاني هي اللجنة التي شكلها الكونغرس الأميركي عام 1935 لتوقع ما سوف يكون عليه العلم والتقنية في النصف الثاني من القرن العشرين، وكانت اللجنة مكونة من أفضل العقول الأميركية العلمية، بعد تقديم تقريرها عام 1938 فاتها أن تتنبأ- من بين أمور أخرى- اكتشاف البنسلين أو الرادار، وقالت من بين توقعاتها إن "الطائرات لن تستطيع أن تطير بأكثر من سرعتها المعروفة آنذاك" طبعا الطائرات أصبحت سرعتها أسرع من سرعة الصوت قبل أن ينقضي القرن!!

الثالثة هي إطلالة كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية الأميركية وهي بعمر العاشرة إلى سور البيت الأبيض، وقولها لعائلتها آنذاك: -كما قال كتاب صدر حديثا عن حياتها- "سأكون هنا في يوم من الأيام"، وبالفعل أصبحت هناك في البيت الأبيض بعد انقضاء أربعة عقود من عمرها...

 ومع ذلك فمن الإنصاف القول بأن بعض الآراء والتنبؤات التي جاءت في بعض الكتب والمؤلفات والكتابات التي تناولت "رؤى المستقبل" أو "صناعة المستقبل" لدى أصحابها منذ عقود طويلة، تحقق بعضها بالفعل خلال سنوات النصف الأخير من القرن العشرين المنصرم.

  وليس غريباً أن العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين شهدت شيوع الاهتمام بالدراسات المستقبلية لدرجة كبيرة وملحوظة، وبأكثر مما عرفته العقود والسنوات السابقة.

  وذلك لأن التخطيط للمستقبل أصبح سمة ضرورية من سمات الدول الصناعية الحديثة، ولابد أن نشير إلى أن استشراف المستقبل، أو بالأحرى رسم ملامح له، أمر يصعب دراسته بمعزل عن الماضي، أو بعيداً عن فهم معنى الحاضر، فليس الماضي مجرد أحداث انتهت وانقضت، وغني عن البيان أن هناك نوعا من "الاستمرار" أو التداخل بين المنظورات الثلاثة، الماضي والحاضر والمستقبل، بحيث يمكننا القول:
 إن الماضي "يعيش" في الحاضر ويتمثل في المستقبل... فمن طريق التأويلات والتقييمات المتعلقة بالماضي يصبح هذا الماضي ذا معنى وواقعية في الحاضر والمستقبل معاً.([1])

ولدينا هنا عقبتان في الفضاء العربي، الأولى هي أن هناك كثيرا من الكتاب والمعلقين يرون أن "ماضي" العرب أفضل من حاضرهم، وربما مستقبلهم، كما يرى كثيرون أن المستقبل "مظلم" أخذا بما يفرزه الحاضر.

أما إذا نظرنا إلى الخليج فإن الأقرب إلى المنطق "إن استخدمنا العقل" أن المستقبل سيتغير بدرجة كبيرة، إلى درجة أن الأجيال القادمة لن ترى أن الجيل الذي سبقها قد "تصرف" في الثروة والسلطة تصرفا حصيفا. ذلك لأن هذه الفورة الاقتصادية التي شهدها جيلنا معتمدة على مصدر تعب المراقبون في الإشارة إليه بأنه مصدر ثروة "ناضب".

وليس جديدا القول إن مجتمعات الخليج قد تصبح إما "مدنا مهجورة" خاوية على عروشها بالتعبير الأدبي، كما حدث لمدن الذهب في أميركا الجنوبية، وإما أن تصبح ذات اقتصاد نام ومتطور كما هي سنغافورة وكما هي هون كونغ يشار إليها بالبنان. كل ذلك يعتمد على السياسات المتخذة اليوم. وهي سياسيات في بعضها إيجابية وفي بعضها الآخر قصور.

([1]) عالم الغد (مقال) للدكتور أحمد أبو زيد، بمجلة عالم الفكر، مج / 4 / ع / 1 / أبريل - يونيو/ 1973م، وزارة الإعلام - الكويت - ص 7.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال