ليست المشكلة الأولية لروسيا، صورتها في الخارج، بل استعادة المجال الاستراتيجي الخاص، داخلياً وخارجياً: فكان للاتحاد السوفياتي السابق بنية خاصة تماماً. عن الحقبة القيصرية جزء منه موروث. لهذا السبب لا يمكن استبعاد أن يتعرض لدرجة من الاستمرار من فترة الشيوعية. إلى ذلك: فقد استطاعت حقبتان، حول روسيا. أن تكونا متميزتين أولاً قلب "سلافي"، أو بالأحرى "روسي بالمعنى الواسع"، متطابق مع التعبير التقليدي، المعرف بـ "جميع البلدان الروسية"، يضاف إليها، البلدان الوسطى، بيلاروسيا وأكرانيا. بعد ذلك، ما يتوافق مع باقي مجموعة الدول المستقلة، في القوقاز، وفي آسيا الوسطى. ويمكن للانطلاقة الاقتصادية الروسية أن تعيد الحياة إلى هذا المجموع، من جديد، شيئاً فشيئاً؛ وتخلق أيضاً الفلك السابق للنفوذ الروسي من جديد، من أجل القول أيضاً، عن هيمنة روسية بالمعنى الدارج.
هذه الدينامية إذا تعشقت، فعلى العجز الاقتصادي الغربي أن يحتل المرتبة الأولى من اهتمامات الدول الرأسمالية، بعد أن أصبح الركود الاقتصادي يقلق أصحاب الشأن في المجال المتروك فارغاً خلال عقد من الزمن، هو في الاستعادة الاقتصادية، في قلب روسيا، من النظام. والجمهوريات الثلاث البلطيقية، هي المقيدة حقاً، في المجال الأوربي، أو بدقة أكثر، المجال السكاندينافي ـ وإن ظهور الفلك (السوفياتي) من جديد، ليس أكيداً، أكثر من الانطلاقة الروسية الحاسمة من جديد. لكن يمكن، الآن، رؤية، أن الانطلاقة لن تكون مستحقة للمشاهدة تماماً من أجل عمليات التحديث، أن تحدث. توجد بين جميع الأمم التي نشأت نتيجة دمار الاتحاد السوفياتي، قربى تتعلق بعلم الأجناس (ANTHROPOLOGIQUE) ترجع إلى حقبة سابقة للشيوعية.
فإن لجميع بلدان الفلك الشيوعي السابق، دون استثناء، بنيانات عائلية، تتعلق بالجماعة، المشاركة في نطاق المجتمع التقليدي، الأب، وأولاده المتزوجون. وهذا ينطبق على البلطيقي، كما هو بالنسبة لشعوب القوقاز أو شعوب آسيا الوسطى. والخلاف الوحيد الملاحظ، هو أفضلية الزواج من إحدى القريبات (ENDOGAME) فهي أحياناً ضعيفة بين بعض السكان من المسلمين، مثل ألاذريين، والأوزبك، والكرخيز، والطاجيك، والتركمان. فالقازاق، هم بالمقابل يفضلون الزواج من الأباعد (EXOGAMES)، مثلهم مثل الروس. ولا يمكن لهذه القربى "في علم الأجناس" أن تقود إلى نفي وجود الشعوب، ولا بأية طريقة. فالأستونيوك، واللوتينيون، واللتوانيون، والجورجيون، والأرمن، جميعهم، موجودون، مثل الشعوب السلافية، حتى إذا نشأت الأمم من تفكك الشيوعية إذ يجب الكثير، لكي يتوضح، الكثير في آسيا الوسطى. كذلك ما وضحه أوليفييه لوروا OLIVIER ROY، بأنها كانت "عملية تصنيع" سياسية سوفياتية(4) لكن، يجب معرفة، أن القرابة الحقيقية، الثقافية، موجودة على الدوام، بين شعوب الاتحاد السوفياتي السابق، خاصة وجودها في كل مكان فيه حساسية اجتماعية. ويجري التقدم الديموقراطي في منطقة، على عمق المقاومة لكل نزعة فردية عنيفة جداً. وتسمح لنا هذه القرابة، من حيث علم الأجناس، من الآن، توضيح ظاهرة حديثة وتوقع ظاهرة مستقبلية، تتعلق بتطور المجتمع ما بعد الشيوعية، على أرض الاتحاد السوفياتي السابق.
ظاهرة حديثة: وجدت الثورة الليبرالية في قلب موجه النظام، في روسيا، ولم تبلغ أيضاً محيطها بسرعة، هذه الجمهوريات حيث النزعة الفردية ليست أكثر من "طبيعية"، مما هي في روسيا، فقد حماها استقلال الجمهوريات المحيطية، سلافية أو غير سلافية، من هذه الثورة الروسية الثانية، الليبرالية، وشجعتها عل تحجر أنظمتها الأكثر استبداداً من ذلك الاستبداد في روسيا.
الظاهرة المنتظرة أو المتوقعة: التقدم المستقبلي في الديموقراطية في المناطق الخارجية من المجموع الروسي، يحتاج إلى كثير من الفكر الروسي، وأكثر من النفوذ الغربي الضعيف، والمتبنى بصورة سيئة. فروسيا، هي في الطريق بحثاً لتجديد سبيل الشيوعية، تحديد نظام اقتصادي وسياسي محرر، لكن قادر على أن يأخذ بالاعتبار الحساسية الجماعية القوية أو ما يتعلق بالجماعة. وبهذا المعنى الضيق، يمكن أن يصبح نموذجاً جديداً في المنطقة.
ويوضح وجود أساس لعلم الجنس البشري المشترك، في جميع جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، لماذا من السهل الكشف أيضاً عن وقائع ثقافية متشابهة في جميع المناطق، كالانتحار، في مجال العنف، على سبيل المثال، وبالمقدار نفسه، في مجال القتل، البلد الوحيد الذي يحدث فيه نسبة وفيات قوية، بشكل كبير، مثل روسيا، فهي كذلك في أكرانيا وبيلاروسيا، وكازاخستان والجمهوريات البلطيقية الثلاث ـ استوني، ليثوني، لتوانياـ. فالموازاة قوية جداً، وربما لا يمكن أن توضح بالكامل، بسبب وجود أقلية روسية ـ حتى إذا كانت هذه الأقلية، عديدة جداً، كما في استونيا، وفي لتوانيا. كما لم تهزم الذهنيات أو العقليات، الباقية عن الفلك السوفياتي، حتى على المستوى ما دون الدولي، أو ما دون السياسي، تماماً.
بادرت الجمهوريات البلطيقية، منذ استقلالها، إلى اختراع تاريخ معارضة أبدي لروسيا، واقعي قليلاً، من وجهة نظر التحليل في علم الأجناس. والمعروف، أن روسيا الشمالية، والوسطى، هما، مكان ولادة الدولة الروسية، وتكشف الجمهوريات البلطيقية عن الفلك الثقافي الأصلي، نفسه، بأنه جماعي بشكل قوي، عن طريق البنية العائلية ومثل الطموحات الأيديولوجية، خلال مرحلة الانتقال إلى عملية التحديث. وتظهر خارطة التصويت البلشفي، أثناء انتخاب الجمعية التأسيسية في عام (1917)، أن الانتخاب الشيوعي، كان أقوى أيضاً في لتوانيا، عما كان عليه في روسيا الشمالية، وروسيا الوسطى. وكانت مشاركة اللتوانيين في الشرطة السرية السوفياتية، محل تقدير منذ الأصل. فلم يكن مدهشاً حقاً، عبر الثوابت الكاشفة عن الذهنيات، وجود نسبة انتحار وقتل قريبة أو متقاربة، نتيجة قرب الثوابت الثقافية بين روسيا وبلدان البلطيق.
ويلاحظ أن نسبة الانتحار في أذربايجان، عديمة الأهمية مع ذلك، فهي نموذجية في بلد مسلم، لأن الإسلام، والبنية العائلية المغلقة والحماسية، التي تتوافق مع ذلك البلد، غالباً تبدو أنها تقارن على الدوام مع مناعة التدمير الذاتي. لكن، هذه النسبة، في الجمهوريات المسلمة القديمة الأخرى، من بلدان آسيا الوسطى، مرتفعة "جداً"، بالنسبة لبلدان مسلمة، ربما ذلك في كازاخستان، حيث نصف السكان من الروس. ويقتضي مثل هذا الانحراف، سمة سوفياتية أكثر أهمية، وأكثر مما يقال، بشكل عام. ويجب أن يكون هذا الواقع، مضافاً، إلى محو الأمية بالكامل، وإلى ضعف الخصوبة، وإلى عدم الاهتمام بالإسلام في آسيا الوسطى ما بعد الشيوعية. وربما يبخس أوليفييه روا ـ في عمله الذي يستحق الإعجاب، يبخس تشرب الثقافة الروسية في المنطقة. فنادراً ما يكشف، أن اللغة الروسية، لها أثر حاسم، وكذلك اللغة الفرنسية، لدى الطبقة الحاكمة، وإن كانت ظاهرة مؤقتة، أو وقتية(5)، ودون الاعتقاد بالفرضية المعاكسة التي تقول بحياة الدهاليز، في زمن الفلك السوفياتي. وإن الـ (1500) عسكري المتمركزين في أوزباكستان، والمرسلين من قبل واشنطن، قليلو العدد، وبعيدون عن عالمهم، فهم رأس حربة اليوم، ويمكن أن يجدوا أنفسهم رهائن غداً.
التسميات
روسيا