التجربة السورية.. الجيش العقائدي والتدخل في السياسة عبر البعث اللاعب السياسي الوحيد في القوات المسلحة. الجيش هو جيش عقيدة البعث

كانت القوات المسلحة تتدخل في السياسة عبر الأحزاب التي كان لها في الجيش مجموعات من المؤيدين ومن هذه الكتل كتلة البعث العربي الاشتراكي وكتلة القوميين السوريين وكتلة الشيوعيين وكتلة الضباط الشوام وكتلة المستقلين وكتلة الناصريين بعد الانفصال.
بعد الثامن من آذار 1963 تحالفت كتلة البعث مع كتلة الناصريين وتم إسقاط الحكم والاستيلاء على السلطة.
بعد ذلك انفرد البعثيون في السلطة بعد إبعاد الناصريين نهائياً عن الجيش.
وحين صار البعث صاحباً وحيداً للسلطة برز للساحة مفهوم جديد للعمل السياسي في الجيش هو (الجيش العقائدي).
معنى هذا المفهوم أن البعث هو اللاعب السياسي الوحيد في القوات المسلحة ولا قوى سياسية لأحد فيها وأن الجيش هو جيش عقيدة البعث ولا إمكانية تسمح لاختراقه من أحد.
كان هدف سلطة 8 آذار أن تمنع أي احتمال لأي انقلاب عسكري على سلطتها المنفردة .
ولكن باستقرار الأحداث نجد أن هذه الصيغة التي كان الهدف منها منع أي انقلاب تعرضت لثلاثة اختراقات عسكرية داخلية.
1- في 23/2/1966 قامت مجموعة عسكرية بانقلاب على القيادة القومية للحزب تحت شعار يساري مهمته إبعاد القيادة
اليمينية المحافظة وتعزيز سلطة الحزب التقدمي!
2- في 16/10/1970 قامت مجموعة مسلحة حزبية أيضاً بانقلاب على المجموعة الحزبية اليسارية بقيادة الرئيس الراحل حافظ
الأسد تحت شعار (حرية الشعب وكرامته وضرورة قيام جبهة وطنية تقدمية ومجلس شعب ) .
كانت هذه الحركة تمثل الاعتدال وقدمت وعوداً ليبرالية وفي السياسة الخارجية أخذت خطاً وسطاً بين المعسكرين في الحرب
الباردة.
3- في عام 1984 قامت مجموعة من الحزبية العسكرية بمحاولة انقلاب على السلطة السياسية مدعومة من العميد رفعت
الأسد ومدعومة من حزب النخبة (رابطة الخريجين) التي كان يراد لها أن تحل محل حزب البعث في السلطة ولكن هذه
الحركة لم تستطع أن تحقق غاياتها وتم تفكيكها بدون سفك دماء.
من هذا العرض يتبين أن مفهوم الجيش العقائدي حقق جزئياً بعض أهدافه فمنع القوى السياسية الأخرى أن تقوم بأي انقلاب ولكن لم يستطع أن يمنع الصراع على السلطة بين أفراد الحزبية العسكرية نفسها بدليل حدوث الاختراقات الثلاثة المذكورة .
على الصعيد الشعبي ترك هذا المفهوم أثراً واضحاً فمع إنفراد البعث في السيطرة على الجيش نشأت مشاعر مكبوتة صارت تنظر إلى الجيش على أنه جيش الحزب بدلاً من أن يكون جيش كل الشعب .
وحين حدثت النكسة في حرب 1967 زادت هذه المشاعر بعد أن قامت سلطة 23شباط بالادعاء أن الحرب كانت تهدف إلى إسقاط النظام التقدمي لا إسقاط الوطن الذي طار الجولان منه!
وحين قامت حرب تشرين 1973 استعاد الجيش دوره الوطني وقوبل بتأييد شعبي كاسح خفف كثيراً من المشاعر المذكورة وكأن الشعب قد أعطى للجيش الفرصة ليكون جيش الشعب والدفاع عنه ومقاومة الغزاة متناسياً أنه جيش الحزب الحاكم لأن هذا الجيش باختياره الحرب على إسرائيل أخذ التفويض الوطني للتحرر من العزلة الضيقة التي كان يراد منها سابقاً إفهام الناس أن قضية الدفاع عن الوطن قضية تخص النظام وجيشه ولا تخص الشعب .
وحين جاء الرئيس بشار الأسد حقق انتقالاً جديداً في هذا المفهوم دون أن يعدل في الشعار بحيث صار من حقائق الوضع في  القوات المسلحة أنها انتقلت إلى دولة المؤسسات قبل انتقال مؤسسات الدولة الأخرى .
صار قانون الجيش هو الأساس الذي يتم من خلاله التبديل في القيادات بمعزل عن الموقع الحزبي والولاء الشخصي ولذلك أمكن إجراء تغييرات كانت مستحيلة في السابق وصارت القوات المسلحة خاضعة لقانونها وللإرادة السياسية دونما حاجة لأي عمل عسكري والتزم جميع ضباط  الجيش وقياداته وارتاحوا لهذا الخطوة القانونية كما أن الشعب اعتبرها مرحلة من الانتقال التدريجي نحو دولة القانون والمؤسسات.
وباستقرار الواقع نجد أن التجربة السورية تسير نحو (دور قومي للقوات المسلحة في العمل عبر قيادة الحزب وتسير نحو التخفيف التدريجي للدور اليومي لهذا القوات).
دور قومي لا دور يومي للقوات المسلحة وهذا الدور محدد بالدفاع عن الوطن وعن السلطة السياسية وقياداته يمكن أن تسأل في القضايا باعتبارها قطاعاً وطنياً هاماً أكثر مما هي قوة تخشاها السلطة السياسية.
هذا الوضع الجديد ومع تخفيف عبء الأجهزة على الحياة السياسية سيسمح في المستقبل بانفراج في الصيغة السياسية باتجاه ديمقراطية تعددية ومتنفسات دون حاجة للعنف.
إن ترتيب البيت السوري مهمة صعبة يقوم بها الرئيس بشار الأسد بكثير من الحذر والروية والتأني والتدريج على أن لا يمس ذلك الاستقرار.
والسياسيون الذين استعجلوا الأمر أخطأوا التقدير ولم يتركوا للتجربة فترة زمنية للنضوج فأخروا هذه العملية.
إن خطاب القسم كان إعلان نوايا ولم يكن انقلاباً على الوضع كما فهم البعض وهذا الإعلان يحتاج لجهود الكثيرين من المتنورين داخل الحزب الحاكم وداخل القوى السياسية الموالية والمعارضة ليأخذ طريقه للتنفيذ .
وفـي جميـع التجارب السياسـية فإن مـا هـو ممكن في الواقـع هو غير ما هـو من النوايـا والأحـلام والأمـور تحتـاج دائمـاً للحـذر والتـأني للوصول إلى تحديد لدور القوات المسلحة في العمل العام بحيث يصبح حامياً للبلد ومدافعاً عن الحدود وعن الديمقراطية والعلمانية بمواجهة كل القوى التي ترى ترتيب البيت السوري من الباب الخارجي أو من باب التعصب الذي يؤذي الوحدة الوطنية.
جيش محترف ومدرب جيداً ومسلح بأحدث الأسلحة واحتياطي شعبي لمدة سنة واحدة فقط للتدرب على الأسلحة لا على الخدمات المختلفة فقط هو هدف وطني شامل.
لقد أنهكت سورية الانقلابات العسكرية وسمحت في بعضها للخارج أن يستثمر هذا الوضع وآن الأوان لتحديد الدور القومي لهذه القوات كجزء من عملية الانتقال نحو دولة القانون والمؤسسات وهذا الترتيب سينجح.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال