إن الصورة المرسومة عن روسيا المثالية، ضرورية للعالم، من أجل الاستقرار الدولي. فروسيا أمة لها تاريخ عريق، وإن كانت تمر في الوقت الحاضر، ببعض المصاعب، لكنها ستجتازها في القريب العاجل.
فالدولة الروسية تصارع ذلك العنف الذي انتشر بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، من أجل المحافظة على قدرتها، ومن أجل المحافظة على كمال حدودها، وهي تصارع محاولات التطويق التي تقوم بها الولايات المتحدة، هذا التطويق المؤثر، وهو أكثر من حقيقي، نظراً للوجود الأمريكي في جورجيا وفي أوزباكستان.
كما لا يتوقف استراتيجيو الولايات المتحدة، من جهتهم، عن التوضيح بقولهم: إننا نعمل من أجل ضمان أمن الولايات المتحدة، على المدى الطويل، ويجب علينا أن نعمل أيضاً على إفهام الروس أن مرحلتهم الإمبريالية فقد انتهت.
وهم بذلك، يكشفون، الانشغالات والهموم الإمبريالية للولايات المتحدة نفسها، خصوصاً. فما من نظر في الأمور بمعزل عن عملها، ليس بالضرورة، أن هذا يعني أن روسيا لم تعد قوة توسع.
ومهما يكن الشكل الديموقراطي أو الاستبدادي الذي يتخذه نظامها، فإن روسيا في حالة تراجع ديموغرافي. فسكانها يتناقصون، ويشيخون.
وهذا وحده، يجعلنا نجيز لأنفسنا أن نتوقع أن هذه الأمة، ستكون عامل استقرار، أكثر من كونها عامل تهديد.
ومن وجهة نظر أمريكية، ينتج عن هذه الحركة الديموغرافية، تناقض عجيب، كفاية.
وقد جعل الانكماش في عدد السكان الروس، بالإضافة إلى الانهيار الاقتصادي، جعل من الولايات المتحدة، القوة الأعظم الوحيدة، وترك العنان لأحلامها، تصول وتجول، في إمبراطورية مستحيلة.
عندئذ رفعت من درجات إغراءاتها للقضاء على الدب الروسي، وتجلى، في المرحلة الثانية، شيئاً فشيئاً، في نظر العالم، أن روسيا قد أُضعفت، ليس فقط، أنها لم تعد مطلقة، بل أصبحت كشريك للتوازن، بصورة آلية في مواجهة الولايات المتحدة القوية جداً، والضالة جداً، والنَّهابَة جداً، في ألعابها الدولية، وهذا ما سمح لفلاديمير بوتين أن يصرح في برلين: "ما من أحد يشك، بالقيمة الكبرى، بالنسبة لأوربا وعلاقاتها مع الولايات المتحدة، لكني أعتقد أن أوربا، ستتورط سمعتها، عند اعتبارها قوة عالمية، مستقلة حقاً... إذا ضمت قدراتها إلى القدرات الروسية ـ مع مصادر إنسانية وإقليمية وطبيعية مع طاقة اقتصادية وثقافية، والدفاع عن روسيا". إنه قد أشار إلى ذلك الهدف بوضوح.
في العمق، ما من أحد، أكيد بصورة مطلقة من أن روسيا، ستقيم مجتمعاً ديموقراطياً، سيدوم زمناً طويلاً، حسبما يحلم فوكوياما بعولمة المجتمع الليبرالي.
بهذا المعنى السياسي، فإنه غير قابل للانطلاق بصورة أكيدة.
مع ذلك، فالمجتمع الروسي قابل للانطلاق على المستوى الدبلوماسي لسببين أساسيين: أولاً لأنه لا يزال ضعيفاً نسبياً.
وهذا، يضاف بغرابة، إلى الاستقرار الداخلي في هذه البلاد، الورقة الرابحة الرئيسة التي هي بيد فلاديمير بوتين، التي تسمح لـه بالاندماج كحليف قوي في اللعبة الأوربية.
لكن، روسيا، قابلة للانطلاق في الوقت نفسه، سواء كانت ليبرالية أم لا، فهي ذات جِبلَّة شمولية، قادرة على توقع وإدارة العلاقات الدولية بطريقة مساواتية صحيحة.
ولا يمكن للشمولية الروسية، إلا أن تساهم إيجابياً في توازن العالم، وذلك بمزاوجة الضعف الذي يقف عثرة في وجه الأحلام المهيمنة.
هذه الرؤيا المتفائلة جداً لروسيا كقطب توازن لن تصبح بالضرورة "واقعاً"، حسب المدرسة الأمريكية التقليدية الكيسنجرية. أما بالنسبة للواقعيين استراتيجياً فإن الثقافة العسكرية، ليست حسنة أخلاقياً.
فقد تعب اليونانيون من قوة أثينا، في آخر الأمر، وانتهوا إلى استدعاء إسبارطة لإنقاذهم، والتي لم تكن نموذجاً للديموقراطية والحرية، بل كانت لها صفة وحيدة، رفضها لكل توسع إقليمي.
كذلك، انتهت الإمبراطورية الأثينية، حُطِّمَت من قبل اليونانيين، وليس من قبل الفرس.
وسيكون من السخرية، أن تُرى روسيا، تلعب دور إسبارطة في السنوات القادمة، المدينة الأوليغارشية، دُعِيَت للدفاع عن الحرية، بعد أن لعبت دور الفرس، إمبراطورية متعددة الأعراق، مهددة لجميع الشعوب.
وما من مقارنة سوف تصبح مرفوعة، بعيداً جداً! فالعالم اليوم، صعب جداً، ومعقد من أجل أن يسمح بحرب جديدة من نوع حرب بيلوبونيز (PELOPONNESE)، لأن الولايات المتحدة، لم يعد لها الوسائل الاقتصادية والعسكرية، والأيديولوجية، بكل بساطة، لمنع حلفائها الأوربيين واليابانيين، من أن يستعيدوا حريتهم إذا رغبوا بذلك.
التسميات
روسيا