موقف نظرية فرويد من القمع والإعلاء.. اصطدام الحتمية اللبيدية بالحقيقة الإنسانية الحضارية والتركيز على الشخصيات غير السوية المعبرة عن هيمنة اللاشعور والهو وقوانين الطبيعة/ المادة

ثمة مفاهيم لم يستطع فرويد أن يحدد موقفه منها تماماً، ولذا فهي تتسم بالإبهام الشديد. فلنأخذ القمع والإعلاء: هل هي أمور مرغوب فيها أم شيء بغيض؟ ففي محاضراته في جامعة كلارك يتحدث عن إمكانية الإعلاء والتجاوز ويؤكد ضرورة أن تصبح بؤرة الدوافع الجنسية هدفاً أكثر بُعداً من الجنس وأن تكون لها قيمة اجتماعية أعلى. ولكنه في المحاضرة التالية يغوص في الحلولية مرة أخرى ويحذر من تَجاهُل الجانب الحيواني لطبيعتنا، وهذا الإبهام يظهر في كتاباته الحضارية مثل كتاب الطوطم والتحريم و موسى والتوحيد.
ولعل هذا الإبهام هو الذي أدى بفرويد إلى التركيز على الشخصيات غير السوية. فالجنس بالنسبة لفرويد هو اللوجوس (الركيزة النهائية) والإشباع الجنسي هو التيلوس (الهدف النهائي). ولكنه في الوقت نفسه كان يرى أن الحضارة مبنية على القمع والإعلاء. وهكذا تصطدم الحتمية اللبيدية بالحقيقة الإنسانية الحضارية، فيظهر موضوع مأساة الحضارة. ولذا كان لابد أن يجد فرويد مخرجاً. ومن هنا كان التركيز على الشخصيات غير السوية، فهذه الشخصيات تعبير عن هيمنة اللاشعور والهو وقوانين الطبيعة/ المادة، على عكس الشخصيات السوية التي تؤكد مجموعة من القيم الاجتماعية والأخلاقية التي تؤكد حرية الإرادة ومقدرة الإنسان على التجاوز والتي تتناقض مع النموذج المادي.
ولعل هذا الإبهام في موقف فرويد وعدم حسمه لهذه القضية هو الذي أدَّى في نهاية الأمر إلى استخدام كثير من الناس نظريته في اللبيدو أساساً لتبرير الحرية الجنسية والإباحية والشذوذ، رغم إصراره هو نفسه على أن الكبت، وليس الإشباع، هو أساس الحضارة. فكأن منطق النموذج الواحدي الطبيعي/المادي هو الذي ساد وتفوَّق وهمَّش المقدرة على الإعلاء والتجاوز.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال