صدام الحضارات.. الحضارة الحقيقية تعنى فى جوهرها التقدم المادى والروحى للأفراد والجماعات وتدفع إلى الحوار لا إلى الصدام

إن الصراع بين بنى الإنسان لا يكون بالضرورة بين حضارات مختلفة. فالحضارة الحقيقية تعني فى جوهرها التقدم المادى والروحى للأفراد والجماعات، أى أنها ترتقى بالإنسان ماديًا وروحيًا، وتهذب من أخلاقه، وتحد من نزعاته العدوانية، وإنما يكون الصراع بين البشر من أجل مصالح ومطامع وأيديولوجيات متباينة وأهداف دينية أو سياسية، فهو إذن صراع قُوَى تهدف به إلى فرض سيطرتها وتسلطها على قوى أخرى.
أما الحضارات فإنها تدفع بالأحرى إلى الحوار لا إلى الصدام.
وقد شهدت البشرية هذا وذاك.
فالمسلمون مثلاً قد اضطروا فى عصور الإسلام الأولى إلى الدخول فى صدام مسلح مع الروم- الذين كانت تمثلهم فى ذلك الوقت الدولة الرومانية الشرقية- ولكن مع ذلك لم يمنعهم على المستوى الحضارى من إجراء حوار حضارى مع الروم، وإن كان حوارًا صامتًا- إذا جاز هذا التعبير- وقد تمثل ذلك فى ترجمة العلوم المختلفة لليونان إلى العربية، وتم ذلك أيضًا بالنسبة للفرس والهند.. إلخ.
وفي المقابل خاضت أوروبا بجحافلها القادمة من مختلف البلاد الأوروبية حربًا ضد المسلمين- سميت بالحروب الصليبية- استمرت ما يقرب من قرنين من الزمان، ولكن ذلك لم يمنع أوروبا من القيام بحوار- على المستوى الحضارى- مع المسلمين تمثل في حركة ترجمة نشطة لعلوم المسلمين إلى اللغة اللاتينية.
وقد بلغت هذه الحركة ذروتها فى الفترة من القرن الحادى عشر حتى نهاية القرن الثالث عشر الميلادي.
وقد كان من الطريف فى هذا الصدد أن أوروبا أول ما عرفت الفلسفة اليونانية - وهى فلسفة أوروبية- عرفتها عن طريق النقل من العربية، ولم تبدأ فى نقلها من اليونانية مباشرة إلا بعد سقوط القسطنطينية فى يد الأتراك العثمانيين، وهجرة العلماء اليونانيين على أثر ذلك إلى إيطاليا.
وفى العصر الحاضر بدأ العالم الإسلامي يترجم ما أنتجته الحضارة الغربية الحديثة من منجزات علمية، ويرسل البعوث إلى جامعات الغرب للاغتراف من علومها وفنونها.
وقد فعلت أوروبا الشىء نفسه فى الماضى بإرسال بعثات إلى الأندلس حينما كان للمسلمين فى الأندلس حضارة مزدهرة.
ومن ذلك يتضح أن الصراع الحضارى لم يكن هو القاعدة فى علاقة أوروبا بالإسلام، بل كان التفاعل الثقافى يفرض نفسه دائمًا، ويترك آثاره البعيدة والفعالة بعد زوال أسباب الصراعات الأخرى.
ونحن نزعم أن القرن الجديد لن يشهد صدامًا بين الحضارات وإن كانت هناك محاولات من جانب العولمة للترويج لنظم وقيم معينة تثير استفزاز الآخرين.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال