يُتصور وقوع الاعتداء في سياق الممارسة الطبية من جهتين أحدهما الجناية العمد العدوان وهذا نادر ولكنه يقع، والثاني من جهة التطبيب بدون إذن المريض أو وليه أو من له ولاية عامة أو خاصة، وفيما يلي تفصيل ذلك:
1- الاعتداء قصداً: وهذا كما ذكرنا نادر، غير أنه يقع إما بدافع الجناية العمد وإما بدافع مبررات عقلية منحرفة، كما وقع في بعض البلاد من قيام بعض العاملين الطبيين بقتل بعض المرضى المصابين بحالات معضلة بدعوى إراحتهم من المرض ونحوه، فهنا إذا ثبت القصد والاعتداء آل الأمر إلى الجناية العمد العدوان ويتعامل معها القضاء من هذا المنطلق.
2- التطبيب بدون إذن: وهذا أكثر حدوثاً في سياق المهنة، وصورة المسألة أن يقوم الطبيب بعمل تشخيصي أو علاجي بدون أخذ إذن المريض، فإذا ترتب على هذا الفعل وقوع الضرر وثبت أن الطبيب لم يكن مأذوناً له بالتصرف ضمن إلا في حالات استثنائية، وهذه الحالات الاستثنائية هي حالات الطوارئ التي لا يسمح فيها الوقت باستئذان المريض ويغلب على الظن هلاك المريض أو تلف عضو منه بالتأخر في التطبيب، والحقيقة إن دعوى عدم وجود الإذن هنا فيها نظر لأن الطبيب لديه في العادة إذن عام من السلطات المختصة بتقديم العلاج الإسعافي في هذه الحالات، بل قد يجب عليه ذلك، وعليه يبقى النظر في الحالات غير الإسعافية وهنا يترجح وجوب أخذ إذن المريض أو وليه قبل المباشرة في أي عمل طبي، ولكن تجدر الإشارة إلى أن مسائل الإذن الطبي فيها تفصيل بحيث لا يمكن الحكم فيها بحكم واحد، والذي نقرره في هذا الموضع هو أن الأصل يقتضي أخذ الإذن والموافقة قبل الإقدام على التطبيب، وأن الأصل يقتضي ضمان الضرر الناجم عن التطبيب بدون إذن، ويبقى النظر في الحالات التي ترجح فيها المصلحة الخاصة أو العامة عدم اعتبار هذا الإذن.
بهذا تتضح لنا موجبات المسؤولية الطبية، وأحب أن أذكر هنا تقسيماً بديعاً للإمام ابن قيم الجوزية ذكر فيه أقسام الأطباء من جهة إتلاف الأنفس أو الأعضاء ، حيث قسم الأطباء رحمه الله إلى خمسة أقسام هم:
1- طبيب حاذق أعطى الصنعة حقها ولم تجنِ يده، فتولد من فعله المأذون فيه من جهة الشارع ومن جهة من يُطبه[1] تلف العضو أو النفس أو ذهاب صفة، فهذا لا ضمان عليه اتفاقاً. قلت: ويدخل في هذا كل ما يحدث من مضاعفات للمرض أو الإجراء التشخيصي أو العلاجي إذا التزم الطبيب بالأصول المهنية وأخذ الإذن الطبي المعتبر، ففي هذه الحالة لا يضمن شيئاً ولا يكون مسؤولاً عن الضرر ولو فاتت النفس.
2- متطبب جاهل باشرت يدُه من يُطبّه فتلف به، فهذا إن علم المجني عليه أنه جاهل وأذن له فلا يضمن (قلت: لأن المريض هو المقصر حيث سمح للجاهل بتطبيبه، ولا يمنع هذا من تعزير هذا الجاهل لإقدامه على ما لا يحل له)، وإن ظن المريض أنه طبيب وأذن له في طبه لأجل معرفته ضمن الطبيب ما جنت يده. قلت: وهذا يعود إلى الموجب الثاني الذي ذكرناه وهو موجب الجهل.
3- طبيب حاذق أُذن له وأعطى الصنعة حقها لكنه أخطأت يده، وتعدت إلى عضو صحيح فأتلفه، مثل أن سبقت يد الخاتن إلى الكمرة[2] فهذا يضمن لأنها جناية خطأ. قلت: وهذا يعود إلى الموجب الثالث الذي ذكرناه وهو موجب الخطأ، ويراعى أن ضمان الجناية هنا قد يكون على الطبيب (فيما دون الثلث) أو العاقلة أو بيت المال على تفصيل عند الفقهاء.
4- الطبيب الحاذق الماهر بصناعته اجتهد فوصف للمريض دواءً فأخطأ فقتله، فذكر ابن قيم الجوزية أن الدية إما على بيت المال أو عاقلة الطبيب، ومفهوم هذا أنه يضمن لأنه يؤول إلى موجب الخطأ.
5- طبيب حاذق أعطى الصنعة حقها فقطع سلعة[3] من رجل أو صبي أو مجنون بغير إذنه أو إذن وليه، أو ختن صبياً بغير إذن وليه فتلف، فقال أصحابنا[4]: يضمن لأنه تولد من فعل غير مأذون فيه، ثم ذكر الخلاف في تضمينه كما أشرنا إلى ذلك في الموجب الرابع أعني موجب الاعتداء[5].
وهذه التقسيمات التي ذكرها في غاية الحسن، وتندرج تحتها معظم أقسام موجبات المسؤولية التي حررناها آنفاً.
[1] أي من يعالجه وهو المريض الذي أذن له بالعلاج
[2] الكمرة: رأس الذكر.
[3] السلعة تضخم في عضو من البدن.
[4] يريد رحمه الله الحنابلة رحمة الله عليهم.
[5] زاد المعاد – ابن قيم الجوزية – 4/128-130 بتصرف.
التسميات
مسؤولية طبية