رثاء العلماء.. رثاء الإمام محمد بن عبد الوهاب والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ

لقد كان أكثر رثاء الشعراء في العلماء على خلاف ما نجده في المراحل الأدبية الأخرى؛ حيث يكون رثاء الأمراء والقادة أكثر، وهذا من آثار الدعوة الإصلاحية، ومن أبرز العلماء المرثيين الإمام محمد بن عبد الوهاب ومن هذا الرثاء ما قاله الشاعر المؤرخ حسين بن غنام:
إلى الله في كشف الشدائد نفـزع ++ وليس إلى غير المهيمن مفـزع
لقد كسفت شمس المعارف والهدى ++ فسالت دماء في الخدور وأدمع ([1])

وأول ما نلاحظه في هذه المرثية مقدمتها الموضوعية التي تناسب موضوعها، وهذا يدل على تحرر الشاعر من التقليدية والإتباع وعدم وقوعه في محاكاة منهج القصيدة القديمة، والقصيدة وإن غلبت عليها التقريرية والأسلوب الخطابي إلا أنها لا تخلو من بعض الصور الجميلة كقوله:
فأضحت به السمحاء يبسم ثغرها ++ وأمسى محياها يضيء ويلمع
وجرت به نجد ذيول افتخـارها ++ وحق لها بالألمعي الترفــع ([2])

والسمحاء هي الشريعة المحمدية وهو توظيف للقول المشهور على ألسنة الخطباء (الشريعة السمحاء) ([3]).

ولا نجد في القصيدة ما يصور حال الشاعر أو ينقل معاناته التي كان من المفترض أن تكون بارزة إزاء وفاة إمام الدعوة ومؤسسها وشيخ شاعرنا العالم المؤرخ حسين بن غنام، بل إن القصيدة جميعها تدور في تمجيد الإمام وتعداد مناقبه وفضائله ولا يعني ذلك انتقاص شأن القصيدة في أسلوبها أو عناصرها الفنية الأخرى، بل إن من تناولها بالبحث والتحليل قد أشاد بها وأعلى من شأنها كقول الدكتور إبراهيم الفوزان عنها (إحدى روائع الرثاء في العصر الحديث) ([4]) ثم إن الرثاء في أصله مدح للميت.

ومن رثاء العلماء ما قاله الشاعر حسن بن أحمد الضمدي في الشيخ أحمد بن محمد بن إدريس ومطلع مرثيته:
جهد المتيم بعد البين أن يقـفا ++  مستعطفا مربعا بالرقمتين عفى
أكرم بها بقعة حل الحبيـب بها ++ فنحوها القلب لا ينفك منعطفا
كيف السلو ولي عين مسهـدة ++ ومدمع عنده والجفن قد وكفـا
فلا تلمني إذا ذاب الفؤاد أسى ++ لا يشتكي الوجد إلا من له عرفا([5])

ويستمر الشاعر بهذه المقدمة طويلا لتصل إلى ما يقارب خمسة عشر بيتا من قصيدته، وهذه المقدمة التقليدية التي تنزع منزعا وجدانيا قد لا تناسب الرثاء كمناسبتها للغزل أو المدح أو الوصف أو غير ذلك، ولهذا نجد أغلب مطالع المراثي على مر تاريخنا الأدبي تكون مناسبة للرثاء فتأتي في المصيبة الكبيرة والحادث الجلل، أو في الفناء وعدم الخلود، أو ما كان حول ذلك، غير أن الشاعر المبدع يستطيع أن يوظف هذه المقدمة الوجدانية ويستغلها استغلالا مناسبا، كما فعل الضمدي هنا حيث جعل محور المقدمة (الفراق) وما يسببه من اللوعة والأشجان، ولم يسترسل في اللغة الغرامية أو الغزلية ولكنه كثف لغة حزينة باكية تحمل الهم والشوق والعناء النفسي بعد الغيبة والفراق، وهذا المعنى (الفراق) مشاع بين الرثاء والغزل بل إنه في الأول آكد لكونه حقيقة وواقعا على حين أنه قد يكون في الثاني خيالا وتوهما.

ومن هنا يدرك السر في كثافة المقدمات الوجدانية التقليدية عند شعراء المدائح النبوية التي وإن صارت فنا مستقلا إلا أنها في الأساس فكرة رثائية وجزءا من الرثاء في شعرنا القديم والحديث، وبعد مقدمة الشاعر الطويلة يخلص إلى تمجيد المرثي والثناء عليه وأنه نال الحظ الأوفر في العلم والإيمان مضمنا ذلك شيئا من النمط الوعظي والنصح ومنها:
يبدي لنا من معاني قول خالقنا ++ ما فيه للمهتدي الأواه أي شـفا
فذاك فيض من الخلاق أعطيه ++ فلا تفتش فيما نابه الصحــفا
أحيى لنا سنة المختار من مضر ++ وحسبنا ما يقول المصطفى وكفى ([6])

ومن روائع رثاء العلماء ما قاله شاعر الدعوة السلفية الشيخ سليمان بن سحمان في رثاء شيخه عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ سنة 1239هـ:
تذكرت والذكرى تهيج البواكيا ++ وتظهر مكنونا من الحزن ثاويا
معاهد كانت بالهدى مستنيـرة ++ وبالعلم يزهو ربع تلك الروابيا
أراضيها بالعلم والدين قد زهت ++ وأطواد شرع الله فيها رواسيا
فما كان إلا برهة ثم أطبقـت ++ علينا بأنواع الهموم الروازيـا ([7])

وقد صدر الشاعر قصيدته بهذه المقدمة القوية التي يتبادر إلى أذهان من يسمعها أنه قد حدثت مصيبة كبيرة أتت على كل شيء ولم تبق بعدها ذكرا ولا أثرا، فيستخدم لغة الجمع للتعظيم لما حدث (البواكي، معاهد، الروابي، أراضيها، رواسي، أطواد، الهجوم، الروازي) فالحزين المتذكر ليس باكيا واحدا ولكنه جمع كبير من البواكي، والأماكن المفتقدة المتأثرة ليس معهدا ولكنها جمع من المعاهد وجمع من الأراضي.. إلخ.

إن الشاعر يدرك أنه لا يرثي عالما يجد في غيره العزاء والألفة ، ولكنه يرثي مرجع العلماء ورئيس القضاء، كما يزيد من الانفعال بهذا الإدراك أن الفقيد شيخ شاعرنا وأستاذه القريب من نفسه والخليص إلى روحه، ثم يمضي الشاعر بعد مقدمته السابقة إلى تعداد فضائل المرثي وبيان منزلته العلمية والاجتماعية، وما كان له من دور في ردع المنكرات والرد على الطغاة والأعداء:
فعبد اللطيف الحبر أوحد عصره ++ إمام هدى قد كان لله داعيـا
تصدى لرد المنكرات وهد مـا ++ بنته عداة الدين من كل طاغيا ([8])

ويستمر في ذلك ليصل إلى تعزية المسلمين والدعاء له، فكأن التمجيد السابق والفضائل المذكورة موجبة للتعزية والدعاء لتنسبك القصيدة في وحدة شعورية متتابعة:
سقى الله رمسا حله وابل الرضى ++ وهطال سحب العفو من كل غاديا
وأسكنه الفردوس فضلا ورحمة ++ وألحقه بالصالحين المهــاديـــا
فيا معشر الإخوان صبرا فإنمـا ++ مضى لسبيل كلنا فيه ماضــيـا ([9])

أما رائد الشعر السعودي الحديث محمد بن عبد الله بن عثيمين فنجد له قصيدتين في رثاء العلماء، الأولى في الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ مفتي الديار النجدية المتوفى سنة 1339هـ ، ومطلع القصيدة:
لمثل هذا الخطب فلتبك العيون دما ++ فما يماثله خطب وإن عظــما
كانت مصائبنا من قبله جلـــلا ++ فالآن جب سنام المجد وانهـدما
سقى ثرى حله شيخ الهدى سحب ++ من واسع العفو يهمي وبلها ديما
شيخ مضى طاهر الأخلاق متبـعا ++ طريقة المصطفى بالله معتصما ([10])

ثم يذكر مآثر وأعمال الشيخ معظما من شأنه ومكبرا من أثره:
نعى إلينا العلا والبر مصــرعه ++ والعلم والفضل والإحسان والكرما
هذي الخصال التي كانت تفضله ++ على الرجال فأضحى فيهم علمـا ([11])

ويجعل بعد ذلك ما تبقى من قصيدته في الحكمة والتي يهدف من ورائها إلى النصح والإرشاد:
إن الحياة وإن طال السـرور بها ++ لابد يلقى الفتى من مسها ألمـــا
فخذ لنقلتك الآتي المصــير لها ++ زادا فما ألحق الباقي بمـــن قدما
لابد من ساعة يبكى عليك ولا ++ تدري بمن قد بكى أو شق أو لطما ([12])

وعند تتابع العطاء الأدبي نجد عددا كبيرا من قصائد الرثاء في رثاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأبنائه وأحفاده من العلماء الذين واصلوا نهج الشيخ وساروا على طريقته في نشر الدعوة ومحاربة البدع والمنكرات والحفاظ على صفاء العقيدة وخلوها من الشرك والانحراف.

وإذا كانت أسرة آل الشيخ في نجد قد حظيت بنصيب كبير من الرثاء لما لها من مكانة علمية ولكثرة العلماء فيها، فإننا نجد في الأحساء أسرة (آل مبارك) و(آل حفظي) في عسير وقد حاز كل من الأسرتين مكانة علمية مرموقة وتوارث أبناؤهما العلم والتعليم، كما وجد فيهما عدد من العلماء الذين رثاهم الشعراء، ومن أولئك العلماء الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف آل مبارك ، الذي رثاه عدد من الشعراء ومن ذلك ما قاله الشاعر عبد الله بن علي آل عبد القادر ، ومطلعها:
لقد عفت من ديار العلم آثار ++ فأصبح العلم لا أهل ولا دار
يا زائرين ديار العلم لا تفدوا ++ فما بذاك الحمى والدار ديار
ترحل القوم عنها واستمر بهم ++ مشمر من حداة البين سيـار ([13])

بهذه العاطفة الحزينة الباكية بدأ الشاعر قصيدته، فالمرثي بموته وفقده ذهب وفقد العلم، ولا شك أنها بداية قوية يتحول الشاعر فيها من رثاء الشخصية إلى رثاء معان عامة، كان المرثي رمزا لها، فهو لا يريد أن يقول فقد العالم الكبير الجهبذ..، ولكن المفقود العلم لتكون الدلالة آكد والتأثير أعم وأشمل، ولهذا (يسمي أهل الأحساء هذه القصيدة مرثية العلم)، ثم تزداد لوعة الشاعر وإحساسه بالفقد وتبلغ حالته قمة التألم ليصبح فاقدا جميع الخلق (فما بذاك الحمى والدار ديار)، وترفع حدة القلق والاضطراب حتى يفقد العوي بواقعه الزماني والمكاني:
تبكي السماء عليهم وهي كاسفة ++ لا الشمس شمس ولا الأقمار أقمار
والأرض من بعدهم ثكلى مرزأة ++ يعلو لها  من زفير الوجد إعصـار ([14])

فيجرد مظاهر الكون الطبيعية ويجعلها متأثرة باكية معه، ليجسد بالتالي رؤيته القائمة على تغير وتأثر كل شيء بعد موت المرثي إعظاما وإكبارا لذلك الفقد ويتجه بعد المقدمة إلى بيان منزلة الشيخ وتفوقه العلمي؛ وقدرته على الرد والمناظرة وما إلى ذلك:
له الإمارة في أهل اللسان كـما ++ له الصدارة إن لاقته أحبــار
بحر من العلم قد جفت مشارعه ++ جم الدراري بعيد القعر تيـار
فخر المدارس لا يؤتى بمسـألة ++ إلا لها منه قرآن وأخبـــار
زين المجالس مسلاة المجالس عن ++ همومه وهو بالخيرات أمّــار
آل المبارك حاز السبق أولكم ++ فهل لكم بعده في الناس إسفار ([15])

وفي البيت الأخير نجده يتجه إلى أسرة الشاعر - المعروفة بالعلم - ليحثها ويستثير همة أبنائها في مواصلة الحرص على العلم وحفظه وعدم إضاعته في أبيات كثيرة ليصل بعد ذلك إلى ختام قصيدته بالصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم).

([1]) شعراء مرحلة التقليد المتطور وشعرهم في المنطقة الشرقية، إبراهيم الفوزان، ص140.
([2]) المصدر السابق.
([3]) هذا التعبير خاطئ والصواب (الشريعة السمحة) انظر: التحرير الأدبي لحسين علي محمد، ط1 (الرياض، مكتبة العبيكان، 1417هـ)، ص36.
([4]) شعراء مرحلة التقليد المتطور وشعرهم في المنطقة الشرقية، إبراهيم الفوزان ، ص140.
([5]) التاريخ الأدبي لمنطقة جازان: محمد العقيلي، ط1، (جازان، نادي جازان الأدبي، 1413هـ)، 2/823.
([6]) المصدر السابق، 2/824.
([7]) عقود الجواهر المنضدة الحسان: سليمان بن سحمان، (الرياض، مطابع مؤسسة الدعوة الإسلامية)، ص494.
([8]) المصدر السابق.
([9]) عقود الجواهر المنضدة الحسان: سليمان بن سحمان، (الرياض، مطابع مؤسسة الدعوة الإسلامية)، ص495.
([10]) العقد الثمين: محمد بن عثيمين ، ط3، (الرياض، مطابع الهلال، 1400هـ )، ص461.
([11]) المصدر السابق.
([12]) المصدر السابق، ص463.
([13]) شعراء هجر: عبد الفتاح الحلو، (دار العلوم للطباعة والنشر، 1401هـ) ص 275.
([14]) المصدر السابق.
([15]) شعراء هجر: عبد الفتاح الحلو، (دار العلوم للطباعة والنشر، 1401هـ) ص 276.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال