المقامة الموصلية من أجمل وأطرف مقامات "بديع الزمان الهمذاني"، يعرض فيها مثالاً للحيل التي يستخدمها المكدون للحصول على المال.
والمضحك الذي برز واضحًا فيها، هو تصوير نفسية المحتال وهو يخرج من مآزق ليقع في آخر، لا يثنيه عن عادته وطبعه شيء، من ضرب أو إيذاء يلحق به.
وقد استخدم "الهمذاني" موقفين أو مشهدين الأول منهما يدعي فيه "أبو الفتح" أن الرجل الذي جهزه أهله للدفن لم يمت بعد، وسيعيده إلى الحياة بعد يومين والمشهد الثاني يصوره حين ادّعى لأهل قرية أخرى قدرته على دفع السيل عنها، حرصًا على إبراز شخصية المكدى إذ لا تثنيه المواقف الصعبة التي يتعرض لها عن ممارسة هوايته في الاحتيال!
يمهّد "بديع الزمان"- كعادته- تمهيدًا ناجحًا للأحداث التي سيعرضها:
قد ملأ الكاتب الصورة حركة ونواحًا، جسّدها وجعلها ماثلة أمام العين، تبعث في النفس رهبة الموت وجلالة، وهو ما يحفّز القارئ متابعة الحكاية إذ تَتَنافَى ملابسات الأحداث مع نِيّةِ "عيسى" و"أبي الفتح" وتآمرهما على الاحتيال الذي عبّر عنه في قوله:
(أين نحن من الحيلة؟ فقال: يكفي الله، ودُفِعْنا إلى دارٍ قد مات صاحبها...).
حرص "بديع الزمان" على أن يوضّح القصد والنيّة عند الرجلين للاحتيال، وهي براعة منه إذ تأتي الأحداث بعد ذلك في صورة يعتقد القارئ صعوبة الكدية معها، غير أن المحتال لا تعييه الحيل، فادّعى للقوم أن الرجل حيٌّ لم يمت بعد، واستطاع خداعهم:
(..وقام "الإسكندري" إلى الميت، فنزع ثيابه ثم شدّ له العمائم، وعلق عليه تمائم، وألعقهُ الزيت، وأخلى البيت، وقال: دعوه، ولا تردعوه، وإن سمعتم له أنينًا فلا تُجيبوه، وخرج من عنده وقد شاع الخبر وانتشر، بأن الميْت قد نشر..).
لقد بنى المحتال خطته معتمدًا على تشبّث أهله بسراب الأمل، وهي فطرة الناس في هذه المواقف، فإذا توفرت معها سذاجة وغفلة، تلاعب المحتال بهم، واعتمد ثانيًا على دور الشائعات وسهولة انتشارها بين السوقة والدهماء إذ سارت الشائعة (بأن الميت قد نُشر) هكذا!
ويلاحظ توالي الأفعال التي أتى بها- في الفقرة السابقة- "أبو الفتح" وسرعتها مما يشخِّص أمامَ أعينِنِا اندماجه المُوحِي باهتمامه وجدّيته، وخطورة الأمر، وليُلَهّي القوم ولا يدع لهم فرصة للتفكير أو العمل بغير ما يطالبهم به.
أخذت الهدايا والمبارّ تنهال على "أبي الفتح" وصاحبه، وعلى العكس مما تنتظر، لم يستطرد "الهمذاني"، ولم يقف كثيرًا عند هذه النقطة، فهناك التفكير في الفرار بهذه الهدايا والمبَار.
وبرغم جهدهما وحرصهما، فإن الفرصة لا تسنح للهرب، ويطالبهم القوم بإنجاز الوعد، فيستمهلهم "أبو الفتح" يومًا آخر، فيمهلونه إيّاه، ويحين الوقت الذي لا مفر منه واجتمعت النساء وأقبل الرجال أفواجًا، وسار معهم "الإسكندري" في مشهد مضحك مثير: (فقال "الإسكندري": قوموا بنا إليه، ثم حَدَر التمائم عن يده، وحل العمائم عن جسده، وقال أنيموه على وجهه فأنيم ثم قال: أقيموهُ على رجليه فأقيم، ثم قال: خلوّا عن يديه، فسقط راسيًّا وطنّ "الإسكندري" بفيهِ، وقال: هو ميت كيف أحييه، فأخذه الجُفُّ، وملكته الأكف، وصار إذا رفعت عنه يدٌ وقعت عليه أخرى، ثم تشاغلوا بتجهيز الميت فانسللنا هاربين...).
لقد كانت من بين وصايا "عيليكا" في "عهد التطفل" احتمال الأذى والصبر عليه، وها هو "الإسكندري" يؤمن بهذه الوصية ويبرهن على ذلك في صورة عمليةٍ، فلم يمنعه الإيذاء الذي تعرض له من معاودة الاحتيال، وانتهز أول فرصة سنحت له- ولمّا يضمّد جراحه بعد- وشرع في ممارسة مهنته.
ويسجل "بديع الزمان" ما يتمتع به المحتال من وقاحة حين انكشف أمره، مع صغار نفسه الذي بدا واضحًا في طنين صوته كما يرى الشيخ "محمد عبده" في شرحه:
(وإنما لم يقل صاح؛ لأنه صوت الخزى والخجل، فهو ضعيف كأنه طنين الذباب).
وفي القرية الثانية تنجح حيلة "أبي الفتح" ويتيسّـر له الهرب فقد وعد أهلها بدفع السيل وصده عنهم إن نفذوا أمره المتمثل في ثلاثة أشياء:
(- اذبحوا في مجرى هذا الماء بقرة صفراء، - وآتوني بجارية عذراء. - وصلوُّا خلْفي ركعتين...).
لقد جمع بين الأساطير، والنزعة الدينية، والمتعة الحسّية وهي أمور يلتبس بعضها ببعض في وجدان العامّة والطبقات التي لاحظ لها من الثقافة، وتبعت في نفوسهم الرهبة وتدفعهم إلى تصديق المحتال، شأن المشعوذين والدجالين الذين يحيطون أنفسهم بالخزغبلات والخرافات.
وبعد أن نفَّذ القوم ما طلب منهم ولم يتبقَ غير الركعتين طلب منهم الصبر وعدم الإتيان بلغو أو سهو، ونعرف أنه قد أعدّ العدة للهرب والقوم ساجدون، وتبلغ الدقة الفنية منتهاها عند "بديع الزمان" حين جعل الهرب في الركعة الثانية بعد اطمئنان القـوم له، ومجاهدتهم أنفسهم، وحرصهم على عدم الحركة، إذ قاربت الصلاة على الانتهاء، ومضى منها أكثر ممّا بقي، وهو توقيت قد وقّته "الهمذاني" بدقةٍ ونجاحٍ.
التسميات
مقامات