ظهور الرواية مع نشأة المجتمع الرأسمالي.. التناقض بين عالم الروح بقيمه المطلقة والعالم الخارجي بقيمه النسبية المنحطة

ظهرت (الرواية) مع نشأة المجتمع الرأسمالي، في الوقت الذي بدأ فيه الإله المسيحي بالتخلّي ـ حسب لوكاش ـ عن الكون، ليبقى الإنسان في عزلة تامة، ولا يجد جوهر الوجود إلا داخل نفسه.
عصر اختفت فيه الديانة لتترك المجال لمعرفة جديدة، فبدأت الروح تشعر بالعزلة، ودخلت في صراع مع العالم الخارجي.
لقد كانت الثقة بالله تسمح بظهور الملحمة، وفي فترة انتقالية بين الملحمة والرواية ظهرت رواية الفروسية ذات البناء القريب من بناء الملحمة الإغريقية.
ثم جاء الإيمان الذي سمح بخلق عالم ميتافيزيقي خالد، هرباً من العالم المنحط التائه في الظلام والحرام والإثم.
وقد استطاع دانتي أن يصوّر هذين العالمين: المثالي والواقعي في (الكوميديا الإلهية) التي أخذت شكل الملحمة.
لكن المجتمع الرأسمالي سلب النفوس إيمانها، فعاشت مأساة العزلة والاغتراب.
وظهر التناقض بين عالمين متضادين: عالم الروح بقيمه المطلقة، والعالم الخارجي بقيمه النسبية المنحطة.
وتمثل رواية (دون كيشوت) لسرفانتس هذه المرحلة، حيث يحمل البطل فيها قيماً أصيلة، يحاول تحقيقها في الواقع الموضوعي، عبر أفعال ومغامرات مختلفة.
لكن روحه لم تفهم تطور العالم الخارجي فاتهمه بالزيف والانحطاط. ولأن البطل لم يكن يملك وعياً شاملاً بالتناقض الصارخ بين ذاتيته وموضوعية العالم الخارجي فإن العالم لم يستجب له، وانزوت روحه في أصالتها لأن مغامراتها لم تجد نفعاً، بل حوّلته إلى أضحوكة.
ذلك أن البطل يحمل قيماً معرفية في وعيه دون مراعاة طبيعة الواقع المادي، لذلك يفشل البطل في تحويل أحلامه إلى واقع، فيصبح أمام أحد خيارين:
- إما أن يضطر إلى التكيّف مع العالم الخارجي فيتنازل عن قيمه الذاتية.
- أو أن يظل محافظاً على قيمه الذاتية، فينعزل داخل ذاتيته، بعيداً عن الواقع الذي يتغيّر ويتطور.
وهذا الفشل أدّى إلى شكل ثانٍ من الفشل في مرحلة(الرواية السيكولوجية) في النصف الأول من القرن التاسع عشر، حيث ظهر صراع آخر بين النفس والواقع الخارجي، بسبب كون النفس شاملة أكثر من كل مايمكن للحياة الخارجية أن تقدم لها، أي أن هذا الفشل في تغيير العالم أدّى بالأدباء إلى خلق حياة داخلية مكتفية بذاتها وبعالمها الداخلي.
ولم يعد الفرد يلعب أي دور في العالم الخارجي. وتمثّل رواية (التربية العاطفية) لفلوبير هذه المرحلة.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال