عدم بث ما يتسبب في الانحرافات والشذوذ والجريمة لما لمثل هذه الأمور من أثر مباشر وواضح في تفكك الأسر والمجتمعات، وقد توعد الله عز وجل من يباشر نشر مثل هذه الأمور بعذاب أليم في الدنيا والآخرة، وفي ذلك تأكيد على اهتمام القرآن بحماية جانب الأسرة والأفراد مما يعكر صفو الاستمرارية والاستقرار.
يقول الله تعالى "إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ*" ([1]).
ويختلف هذا الضابط عن ما قبله في أنه يتعلق ببث جميع ما من شأنه نشر الرذيلة والجريمة وأي شكل من أشكال الانحراف حتى وإن لم تكن تهمة موجهة نحو شخص معين أو فئة معينة بغرض السب أو القذف، بينما الضابط السابق يتعلق بانتهاك حقوق خاصة لجهات أو أفراد معينين.
(يحبون أن تشيع الفاحشة) أي يشيعون الفاحشة عن قصد الإشاعة ومحبة لها، والفاحشة هي ماقبح جداً([2]). أو الخصلة المفرطة في القبح والمقصود من محبة الإشاعة إما محبة انتشار خبرها أو محبة انتشارها هي في ذاتها بين الناس([3]).
ويضيف الدكتور عبد الله شحاته في تفسيره لهذه الآية: "إن الفاحشة هي كل أمر قبيح ثم قال: ومقصود الآية ذم من ينشر الأخبار الكاذبة ويذيع أنباء الزنى عن المحصنين والمحصنات فهناك صنف من الناس مريض وربما كان فاسقاً أو زانياً ويرى في سلوك كل شريف أو شريفة تحدياً له وإعلاناً عن النزاهة والاستقامة.
فهو يريد أن يستر كل خير وأن يذيع كل إثم وقد توعد الله هذا الصنف بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة وأوجب علينا أن نقفل أبواب الفتنة وأن نوقف كل حديث يتصل بتجريح الأعراض وأن نسد منافذ الشر والإثم في المجتمع وأن نحافظ على شبابنا وبناتنا من التيارات الغربية والانحرافات الآثمة.
ثم قال حكم الآية ينطبق على إنشاء دور للبغاء ونشر ما يرغب الناس فيها ويثير غرائزهم الدنيئة من القصص والروايات والغناء والصور والسينما، فالقرآن يصرح بأن هؤلاء جميعاً من الجناة ويجب ألا ينالوا عقابهم في الأخرة فقط بل في الدنيا كذلك.
فمن واجب كل دولة أن تبذل جهدها في استئصال جميع هذه الوسائل والأسباب لإشاعة الفاحشة وتقرر أن جميع هذه الأفعال جرائم مستلزمة للعقوبة وتؤاخذهم عليها"([4]).
ومعلوم أن الفاحشة لا تقتصر على فعل معين تسبب نتيجته فاحشة ولكن الفاحشة يمكن أن تكون كلمة مسموعة أو صورة مرئية أو فكرة فاسدة أو خيال شارد ، ومصير هؤلاء عذاب في الدنيا وفي الآخرة وهو مصير لا يعلم حقيقته إلا الله وهم لا يعلمون مدى الضرر الناتج عن إشاعتهم الفاحشة بين الناس فكان هذا عقابهم([5]).
ويدخل في ذلك الفن العاري والأدب المكشوف والمروجون للدعارة الفكرية والحرية الجنسية ومن يجعلون جسد المرأة مسرحاً للدعاية والإعلان ويدخل تحته أيضاً المواد التي تقدمها وسائل الإعلام بجميع أنواعها والتي لا يراعى فيها المنهج الإسلامي القائم على العقيدة والسلوك والأخلاق وتقوى الله([6]).
فتحريم إشاعة الفاحشة وأخبارها هو معيار يمكن أن يكون من الضوابط الإعلامية لأن التزامنا بذلك يحفظ الأسس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يرتكز عليها كيان الدولة ويقوم عليها بنيان المجتمع([7]).
ومن أقوال العلماء في هذه الآية العظيمة النفع يتبين أن بث ما يسبب الانحراف والشذوذ والجريمة هو من المحاذير والحدود التي يجب أن تقف عندها الحرية الإعلامية وقوفاً تاماً لا تتجاوزها، وإن تجاوزتها فإنه يجب مصادرتها ومعاقبة من باشر ذلك التجاوز وفق التوجيهات القرآنية.
([1]) سورة النور، الآية 19.
([2]) النسفي، مدارك التنزيل وحقائق التأويل، ج2 ص495.
([3]) ابن عجيبة الحسني، البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، ج5 ص60.
([4]) عبد الله شحاتة، تفسير القرآن الكريم، دار غريب، القاهرة، 2000م، ج18 ص3568.
([5]) محمد حسن ممدوح، سورة النور ومشكلاتنا الاجتماعية، دار الأمين، ص59- 60.
([6]) خالد إبراهيم الفتياني، التفسير الإعلامي لسورة النور، دار طوباس للنشر والتوزيع، 1993م، ص80.
([7]) الشنقيطي، أصول الإعلام الإسلامي وأسسه، ص107- 108.
التسميات
حرية إعلامية