مشروع تجاوز الأنواع الأدبية.. العلاقة بين الكلام واللغة معيار صالح لكشف طبيعة التناظر القائم بين النص والنوع



إن الموقف منالنوع الأدبي يرى أن مشروع تجاوز الأنواع الأدبية ما يزال محفوفا بكثير من العقبات والاعتراضات المستخلصة من التفكير النظري ومن التحقيقات النصية.

فمن جهة لابد من وجود متكأت لكل نص يستند عليها تمثل جملة خصائص تسمح بـ(تجنيسه) وإدراجه ضمن نوع أدبي عام مهما بلغت درجة انتهاكه للقواعد الأولية لذلك النوع.

والمسألة في غاية الصعوبة إذ ظلت العلاقة بين النص والنوع والجنس الذي ينتمي إليه النوع من القضايا ذات الحضور المتميز في النظرية الأدبية.

ونهضت أسئلة كثيرة تراجع هذه الإشكالية بهدف ضبط العلاقة بين النصوص وأنواعها وأجناسها والانتقال إلى التحولات الداخلية للنصوص وعلاقاتها بالسياقات الخارجية منها:

- هل تصوغ النصوص إنموذجاتها النوعية أو إن تلك الإنموذجات هي التي تفرض خصائص محددة على النصوص الأدبية؟
- وهل تعد النصوص مغذيات للنوع المباشر ثم للجنس الأدبي الذي ينتمي إليه النوع أوانه هو الذي يغذيها بخصائصها؟
- وما نوع التحولات الفنية والتاريخية المحتملة من ناحية النشأة والتطور؟
- وهل يمكن أن تبقى الأجناس والأنواع في حال غياب نصوص تنتظم في افقها؟
- وهل يمكن أن تزدهر نصوص في منأى عن أجناسها وأنواعها؟
- وأخيرا هل تتبادل الأجناس والأنواع والنصوص تأثرا وتأثيرا خصائصها وأنساقها ووظائفها فتحيا معا بوجودها وتموت معا بانعدامها؟.

أسئلة يحمل قسم منها أجوبته المباشرة، وقسم آخر يحتاج إلى أجوبة ستتكفل الدراسة بها, ويبقى كشف العلاقة بين النص والنوع الأدبي أهم مدخل إلى هذه الأجوبة.

إذ يتبنى كثير من النقاد الحداثيين في النظرية الأدبية العلاقة التي اكتشفها دي سوسير بين الكلام واللغة بوصفها معيارا صالحا لكشف طبيعة التناظر القائم بين النص والنوع.

ويتلخص مؤدى تلك العلاقة بالنظر إلى الكلام بوصفه تعبيرا فرديا يترتب ضمن قواعد معيارية هي اللغة.

وأن تلك القواعد أنظمة تجريدية اشتقت عبر تراكم الأفعال الكلامية، فإنه وبالتناظر يمكن عد النص الأدبي تعبيرا فرديا يهتدي بقواعد النوع الذي ينتمي إليه.

فما هو مفهوم النوع الأدبي؟
ذكرنا أن النص أخذ يتمرد على التجنيس، ويتحول إلى قيم جمالية تمارس عملية التموضع داخل الجنس/ النوع، وكأن النص نوع في ذاته، وذكرنا أن الاحتكام إلى المعايير والخصائص التي احتكم إليه الأدب التقليدي لم يعد مقنعا.

فالتطورات الاجتماعية والثقافية والسياسية أثرت بشكل كبير في ضم أنواع جديدة إلى عالم الأدب، (ذات محتوى لأشكال تنطلق من القيم الجمالية المحلية، إنني استخدم هنا مصطلح -والكلام للدكتور سيد البحراوي- (محتوى الشكل) للدلالة على القيم الجمالية والفكرية التي يحملها استخدام شكل فني ما.

وان القيم الجمالية للجماعة يمكن أن تختلف من مجتمع إلى مجتمع ومن مرحلة إلى مرحلة وإن كان هناك اتفاق عام بين البشر في كثير من العناصر.

ومن هنا كانت التفرقة ضرورية بين النوع الذي يمكن أن يكون مشتركا وممثلا للقيم المشتركة بين البشر الذين يعيشون نمط إنتاج واحد أو متشابه وبين الشكل الذي ينبغي أن يختلف من جماعة لأخرى مجسدا تفصيلات ودقائق ذوقها الجمالي).

وبذلك تسهم الضرورة الاجتماعية والرغبة الفردية في الاستجابة لابتكار نوع أدبي جديد يضع حدا بينه وبين الصرامة الاجناسية ليكون نوعا مرنا يتكون من مجموعة من السمات مركبة على نحو معين تتغير بتغير المعايير والخصائص التي تميز كل نص أدبي عن غيره.

ولأننا نعيش عصر التقلبات بكل عنفوانها فإن التغييرات الاجتماعية ستؤثر بدورها في الأنواع الأدبية وتقاليدها المرنة إلى حد إلغائها ليكون (النص الذي يمكن كتابته نصا حديثا ليس له معنى محدد ولا مدلول مستقر ولكنه جمع مسهب ونسيج أو حشد لا ينضب من المدلولات ونسيج من الشفرات أو أجزاء من القوانين  التي يشق الناقد طريق رحلته من خلالها، لا نهايات ولا بدايات ولا تتابع لا يمكن قلبه، ولا تسلسل هرمي على مستوى النص؛ ليبين لك ما هو أكثر أو اقل أهمية).

وعلى أساس هذه التغيرات تعرض مفهوم النوع إلى هجومات وخلافات حول تعريفه وفقا للشكل الخارجي حينا (الطول، القصر، العروض) ووفقا لشكله الداخلي حينا آخر (المواقف، النغمة، الموضوع) في حين أنكر بعضهم هذه الخلافات التصنيفية ووصفها بـ(العقيمه) واعتمدوا على عدم تحديد الدلالة معيارا في هدم مفهوم النوع الأدبي ويبدو أن هذه مغالطة كبيرة في حض المفاهيم النوعية على تجاوز تحديداتها  الموضوعة لها وتذبذب مصداقيتها وفقدان هويتها لنتاج له حرية التنافذ والتواطؤ مع فكرة تعطيل الاستجابة لمتطلبات العصر وفكرة تهشم القصة أو القصيدة لتصبح أي نوع أدبي آخر.

صحيح أن (الأنموذجات محكومة بتحول دائم بفعل دينامية العلاقة بين النصوص والمرجعيات، وكل أنموذج قار هو أنموذج متأزم في طريقه للانهيار، لأنه لم يعد قادرا على استيعاب مظاهر التجدد الضمنية الداخلة في النسق السردي، وهو من بعد عاجز عن تفسير تحولات النوع وخصائصه) ولكن هذا لا يعني أننا بحجة إتساع دائرة التداخل النوعي يجب أن ننفي مجموعة الخصائص الفنية التي تشكل السمات والملامح النوعية لأي نص على رغم من إيماننا بصعوبة النقاء الكلي.