تقدّم نصوصُ الكتاب فضاءً دلاليًا متسعًا يسمح بنوع من حرية التأويل عند مقاربتها وهو ما يكشف عن مستوى أكثر عمقًا للصوت السردي، مستوى أكثر بقاء وخلودًا فيظل تأثيره يتردد وإن غاب المؤثر، كما يظل صدى الصوت يتردد مع اختفاء الصوت الأول المباشر.
فقد يجهر الوصف في النص السردي التخيلي بشيء ما ومعلومة أو أكثر عن الموصوف، ولكنه وهو يفعل ذلك يقول بصفة ضمنية أشياء أخرى تمثل مركز الثقل الدلالي الذي لابد أن يبذل المتلقي مجهودًا ليكتشفه.
وتعكس هذه الأمور الضمنية القابعة فيما وراء الصوت المباشر أهداف المبدع المستترة خلف مجموعة الأوصاف السطحية، وهذه الأهداف يتم اختزالها في عنصرين وهما الدعوة للمغامرة والدعوة للتأمل.
يمكن أن نلمح تكثيفًا للإيحاء بروح المغامرة التي يتمتع بها البطل وذلك من خلال استهلالات بعض النصوص، حيث تُحشد مجموعة من القرائن المتواشجة مع عنصر المغامرة ودلالته، كرغبة البطل الملحة في السفر والارتحال، وسعيه الدؤوب لاكتشاف المجهول وبحثه الحثيث عن كل ما هو جديد.
فالاستهلال يكشف عن رغبة الراوي العميقة والمتكررة في إظهار البطل متمتعًا بروح المغامرة.
ففي الفصل التاسع عشر (في الوحش) يُفتتح النص بعبارة "هفا بي هيف الإسفار، وطوحني بين أنكر صحبة الأسفار، إلى خرق متسع الجوانب تطول على سالكه سبائب السباسب، فسرت أطوي خيفه وصمانه، وأرض جلاميده وصوانه".
فيبدو البطل هنا ذاتًا فاعلة عاشقة للسفر والارتحال ومتجاوزة لحالة السكون المميزة للذوات الخاملة، فهو ذات ديناميكية متطورة تمتلك طاقة ذهنية وروحية تدفعها لتجاوز واقعها المفروض عليها، واستشراف عالم مغاير يمثل واقعها الذي تصطنعه لنفسها.
فعنصر الحركة الممثل لإحدى خصيصات البطل المميزة يُعد من أكثر القرائن تلاحمًا مع بنية الشخصية المغامرة التي هي ذات ديناميكية...لا تمكث طويلاً في مكانها، بل ترحل خلف الطموح والرغبة في الحصول على شيء ما.
فالمغامر هو من يرمي بنفسه في غمار الأمور فيقال رجل مغامر إذا كان يقتحم المهالك، فهو الشخص المتمرد على مألوفية الواقع المعيش والساعي إلى خلق عالمه الجديد بنفسه والتواصل معه، على الرغم من إدراكه للمخاطر التي ستحيق به قبل الوصول إليه.
فالبطل في النص السابق شخصية اعتادت السفر والارتحال إلا أنها تقاعست فترة عنه قبل أن تجيش بصدرها الرغبةُ الصادقة في المغامرة مجددًا، وهو على علم تام بتبعات تلك الرغبة وآليات تحقيقها "خرق متسع الجوانب تطول على سالكه سبائب السباسب..".
فملفوظات (خرق، السباسب، صمّانه، خيْفه، جلاميده) تبرز حجم المشقة التي تحملها البطلُ المبئر وصولاً إلى هدفه الذي يعتّم النص على أية دلالة أخرى له غير الرغبة في المغامرة وما تنطوي عليه من رغبة في تجاوز الضعف الإنساني.
فالروح الاستشرافية التي تهيمن على ذات البطل وعدم المبالاة بالصعاب في سبيل إشباع رغبة الاستكشاف تقارب بين النص المُتولِّد عن هذه الرغبة وما يطلق عليه رواية المغامرة التي يعرّفها د/الطاهر أحمد مكي بقوله "هي نسيج من أعمال تنطوي على كثير من المفاجآت والمباغتة والأحداث التي تشتمل على الأعاجيب".
فتعدد وحدات البناء الدرامي للنص ولعب المفاجآت لدور بارز في صياغته، والانزياح عن المألوف بالإضافة إلى الشخصية ذات السمات السلوكية والنفسية المميزة، كلها أمور تؤشر لرواية المغامرات وترسخ لمفهوم "الأنا المغامرة" المطروحة في النص من خلال شخصية البطل المختزِلة لتلك العناصر كافة.
فالراوي ومن خلفه المبدع يقدم عبر هذه الشخصية ـ التي تجني ثمار مغامرتها خبرة ومعرفة ومتعة ـ دعوة لنا للتدرع بشجاعة المجاوزة وجسارة المفارقة ووهج الاكتشاف بوصف الإنسان كائنًا مغامرًا.
وكما كان لروح المغامرة التي يتمتّع بها البطل دور أساسي في دعوة المتلقي لممارسة حقه في المغامرة، فإن النظرة التأملية التي يتذرّع بها البطل في العديد من النصوص، تقوم بدور مهم في التأشير لما يتمتّع به البطل من خصائص تأملية تتفعل من خلال اختيار الراوي لفضاء زماني ملائم لعملية التأمل.
فنلاحظ هيمنة فترة الليل على الأفضية الزمنية لمعظم النصوص المختزلة للبعد التأملي للبطل، فالراوي يحرص على جعل الليل فضاء زمنيًا يحيط بالحدث ويأطّره.
فهذه الفترة هي أكثر الفترات ملاءمة لفعل التأمل بما تتيحه من إمكانات الصفاء الذهني والهدوء النسبي المحيط بالذات، بالإضافة إلى ما ترسخ في تلافيف العقل الجمعي للذات العربية وما تكرّس في ذائقتها من ارتباط حيوي بين الليل والرؤية العميقة.
فحرص الراوي على رصد ممارسة البطل دوره التأملي يقدم مؤشرًا لضرورة الاستجابة للمعطى الذي أسسته الرؤية القرآنية الداعية إلى إعمال الحواس والعقل لكي يجتاز الإنسان من منطقة معرفية إلى منطقة معرفية أكثر عمقًا تكشف له الكون وذاته وتزيده اقترابًا من خالقه جل وعلا.
وإذا كان سردنا القديم لم يفتقد النسق المسرحي الذي يقوم فيه الراوي بدور المخرج في العرض فإن القصة القصيرة المعاصرة قد أفادت من هذا النسق بدرجة عالية كما يلاحظ القارئ –الذي يمكن أن يتحول إلى مشاهد- عندما يطالع إبداع كرمة سامي.
التسميات
دراسات روائية