المسرح الملحمي.. الاعتماد على الجانب الإيحائي وبالإمكان تغيير المناظر دون اسدال الستار للخلط بين الواقع والخيال. مخاطبة العقل والوعي يحققان الفائدة أكثر من المتعة

المسرح الملحمي رائده الألماني (بريخت) ويختلف هذا المسرح عن المسرح الدرامي لأنه يعمد إلى السلبية.
المناظر المسرحية تعتمد على الجانب الإيحائي وبالإمكان تغيير المناظر دون اسدال الستار للخلط بين الواقع والخيال.

اعتمد بريخت على ثلاثة أركان في تغيير مفهوم المسرح عند الناس وهي:
- التغريب / يقوم تصوير الأحداث بصورة غريبة غير مألوفة ومغايرة للواقع.
- التأرخ / يستمد المادة الموضوعية لمسرحياته من التاريخ مع فصل الواقع عن الماضي.

- الملحمة / يعتمد المسرح على أشكال وأنماط (أقواس – منحنيات) لا أسلوب المفاجأة التصاعدي، فالكيان الاجتماعي عنده هو الذي يجدد الفكر بعيدا عن الإحساس.

وقد أخذ العديد من شعراء فلسطين بهذا اللون المسرحي الملحمي – ومنهم محمد كمال في مسرحية (اللي صار) لأنه يؤمن بأن مخاطبة العقل والوعي يحققان الفائدة أكثر من المتعة.

وقد أولى المسرح الملحمي اهتماماً كبيراً بالمتلقي، فكان جزءاً عضوياً من جميع الكتابات النظرية   للمسرحي الألماني برتولد بريخت، منطلقاً " من فكرة المواجهة بين فضاءين هما: فضاء المتلقي، وفضاء العرض " حسب تعبير المعجم المسرحي لإلياس وحسن.

وجاء رفضه للمسرح الدرامي الأرسطوطاليسي،  وتقديم بديل عنه هو المسرح الملحمي، لتحقيق جملة أهداف أبرزها "جعل التلقي عملية واعية، وليس انفعالاً مجرداً"، من خلال استرجاع الوظيفة التعليمية للمسرح ( مع تحفظنا على جعلها وظيفة مهيمنة تعدم شعرية هذا   الفن، وتحوله الى وسيلة براغماتية)، وإدخال عناصر التغريب على كل المستويات.

ولذلك تعد جهود بريخت وإنجازاته في غاية الأهمية لأي دراسة تبحث في العلاقة بين العرض المسرحي والمتلقي.
وكانت لأفكاره التي قدمت تصوراً لمسرح له من القوة ما يجعله باعثاً على التغيير الاجتماعي، إضافة الى محاولاته إعادة بعث الحياة في العلاقة بين المتلقي والعرض المسرحي.

لقد كان بريخت، كما تقول سوزان بينيت (الباحثة الكندية المتخصصة بالتلقي المسرحي)، يهدف أساساً من مسرحه الملحمي الى تغيير الأنماط التقليدية للإنتاج والتلقي، لذا كانت كل الإضافات التقنية التي أدخلها تسعى الى إيجاد ما أسماه بمسرح عصر العلم، وهي الاضافات التقنية ذاتها التي وضعت لدفع المتلقي الى التأمل والنقد من دون أن يفقد المتعة المسرحية.

ويشير بريخت في (الأورجانون الصغير) الى أن الممارسة المسرحية المعاصرة قد أجهضت العلاقة المباشرة بين العرض المسرحي والمتلقين، فالبنية الاجتماعية المصورة على خشبة المسرح تظهر وكأنها عاجزة تماماً عن التأثير بالمجتمع (الممثل/ قاعة المشاهدة). ولمقاومة هذا النمط من المسرح يقدم بريخت مسرحاً آخر يقوم على التفاعل المباشر مع المتلقين.

وعلى الرغم من أهمية مفهوم بريخت عن الأثر التغريبي، الذي يهدف، فيما يهدف إليه، الى إثارة وعي المتلقي بغرابة واقعه الاجتماعي وتناقضه، الذي يعريه العرض، والى إثارة رغبته في تغيير هذا الواقع تغييراً جذرياً حتى يستقيم مرةً أخرى (من منظور ماركسي)، فإنه لم يلق، كما تقول بينيت، الضوء على استراتيجيات التلقي لدى الجمهور.

وتعزو ذلك الى إساءة قراءة دارسي بريخت لهذا المفهوم، وترى أن مكمن الخلط والبلبلة هنا هو تلك المفارقة التي ينطوي عليها المفهوم، فالتغريب بوصفه مسافةً بين المتلقي والخشبة تحول دون تماهيه مع ما يجري عليها، من جهة، يبدو وكأنه يستبعد هذا المتلقي، إلاّ أنه، من جهة أخرى، يعد جزءاً من عملية لا يجب أن تتعاقب فيها المشاهد المسرحية بشكل متصل، بل يجب أن تفسح للمتلقي المجال للمشاركة بأحكامه.

وتدعم بينيت رؤيتها هذه بقول ستيفن هيث "ليس التغريب هو فقط عزل المتلقي عن الفعل الدرامي للمسرحية، ثم إدماجه فعلياً بعد ذلك في علاقة توحد عاطفي مع البطل بوصفه حامل الوعي الكلي للعرض، بل هو، أيضاً، جعل المتلقي جزءاً من عملية التحول مما هو أيديولوجي الى ما هو حقيقي، من الإيهام الى الحقيقة الموضوعية، أي الى التحليل السياسي لأنماط التصوير المسرحي، وأهدافها، وكذلك نشاط المسرحية كلها وفاعليتها".

ويستنتج من ذلك أن التغريب يسعى الى تغيير منظور المتلقي الاعتيادي للأحداث الدائرة على خشبة المسرح من أجل خلق علاقة بينهما قوامها التفاعل المتبادل.

وعلى الرغم من سوء الفهم الذي أحاط بهذا المفهوم، فإن إسهامات بريخت قدمت عدداً من المنطلقات التي تتعلق بدراسة المتلقي في المسرح، وقد أسست هذه الإسهامات ممارسةً مسرحيةً متطورةً تهتم بعمليتي الإنتاج والتلقي بشكل واع، ومن ثم أصبح العرض، في هذا السياق، مشروعاً تعاونياً بعد أن كان وحدة منفصلة قائمة بذاتها لا تطلب من المتلقي إلاّ أن يؤدي دور المتلقي فقط.

وهكذا أصبح له دور نشط يؤديه، وجرى الاعتراف بأهميته المركزية في التجربة المسرحية.
كما أن هذه الإسهامات لم تشجع فقط على إنتاج متلق من نوع جديد يضطلع بدور المؤدي حالما ينتهي العرض، على حد قول ألتوسير، بل وضعت، أيضاً، الأنموذج السائد للعلاقة التواصلية بين الخشبة والمتلقين موضع التساؤل .

وعن الجدل الأكاديمي الذي أثير حول مفهوم التغريب، تشير بينيت الى أن معظمه قد ركز على مشاركة المتلقي في العملية المسرحية.

وتقتبس، في هذا الصدد، رأياً لدانا بول مفاده أن فكرة المسافة تبرز لنا أن أنماط التلقي المعتادة تتحكم فيها الأيديولوجيا، وأن مسرح بريخت يقوض الطريقة التي يشاهد بها الناس العروض المسرحية، والتي تجعلهم يسلمون بما يقدم أمامهم من دون أن يناقشوه من الناحية الاجتماعية .

ولعل مما يقدم دليلاً قوياً على اهتمام بريخت الكبير بالمتلقي، سواء في كتاباته النظرية، أم نصوصه المسرحية، أن أي جدول للمقارنة بين مسرحه الملحمي، والمسرح الدرامي الأرسطوطاليسي، والذي درج الباحثون على وضعه بشكل تقليدي في معظم الكتب المؤلفة حول بريخت، يتضمن العديد من النقاط الخاصة بالمتلقي، أو مايهدف المسرح الملحمي الى أن يحققه له، فإذا كان المسرح الدرامي يستغرق المتلقي داخل الحدث على خشبة المسرح، فإن المسرح الملحمي يحول هذا المتلقي الى مراقب للحدث.

وأذا كان المسرح الدرامي يثير أحاسيس المتلقي ومشاعره، فإن المسرح الملحمي يدفعه الى اتخاذ قرارات إزاء ما يحدث والحكم عليه. وإذا كان المسرح الدرامي يقدم للمتلقي تجربةً يعايشها وجدانياً، فإن المسرح الملحمي يقدم له صورةً للعالم يتأملها عقلياً.

وإذا كان المسرح الدرامي يسعى الى تحقيق تماهي المتلقي، أو تورطه في الأحداث، فإن المسرح الملحمي يسعى الى مواجهة المتلقي بالأحداث مواجهة موضوعية.

وإذا كان المسرح الدرامي يثير المشاعر الغريزية لدى المتلقي، ويلعب عليها، خفيةً، بنعومة، فإن المسرح الملحمي يخرج المشاعر الغريزية الى النور، ويدفع المتلقي الى إدراكها بوعيه.

وأخيراً إذا كان المتلقي في المسرح الدرامي يشعر أنه في خضم الأحداث، وجزء من التجربة الإنسانية المقدمة، فإنه يقف في المسرح الملحمي خارج الأحداث ويدرسها.

ولكن نظرةً واعيةً الىهذه المقارنة تتيح لنا اكتشاف مدى التعسف الذي مارسه أولئك الباحثون للتفريق بين خصائص المسرح الدرامي الأرسطوطاليسي وخصائص المسرح الملحمي، غافلين، عن أو متعمدين عدم تلمس وجود عناصر مشتركة بين المسرحين على الرغم من التباين النظري بين منطلقاتهما وأهدافهما.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال