سوسيولوجيا النص الأدبي وتمثيل مختلف البنيات النصية كبنيات لسانية واجتماعية

إن سوسيولوجيا النص الأدبي تسعى إلى تمثيل مختلف البنيات النصية كبنيات لسانية واجتماعية في آن، ما دام الأمر يتعلق بمستويات دلالية وتركيبية (سردية) ذات علاقات جدلية.

ومن خلال هذه العلاقات يمكن اعتبار العالم الاجتماعي كجماع لغات اجتماعية مستوعبة ومحوّلة بواسطة النص الأدبي.

إن الاهتمام بالأدب كظاهرة اجتماعية لا يعني -اليوم- مقاربته من الوجهة الاجتماعية، لرصد انعكاسات هذا الواقع على صفحته، وتمثيله للحياة في صورها المختلفة، مستعرضاً ألوان الصراعات التي تشكل الواقع، وتتفاعل فيه سلباً وإيجاباً، وفق نظرة خاصة، تتشكل لدى الأديب من خلال وعي حاضر يعايش الواقع ويحياه كغيره من الناس.

بل النظر إلى الظاهرة الأدبية في جملتها وسط حركة المجتمع، في رحلتها من الأديب إلى القارئ، وما يعتور هذه الرحلة من ملابسات قد تزري بالفعل الأدبي وتحوله عن وجهته زيادة ونقصاً، وقيام هذا "التخصص" كفيل بأن: "يبين العلاقة بين الأدب والظروف الاجتماعية المحيطة به، ومثل هذا العمل يفيد في إلقاء أضواء متعددة على الظاهرة الأدبية كما يفيد في فهم المجتمع، وبعبارة أخرى فإن دراسة الظاهرة الأدبية، كظاهرة اجتماعية يفيد دارسي الأدب ونقاده، كما يفيد علماء الاجتماع أنفسهم".

ومعنى ذلك أن الإقبال على سوسيولوجيا الأدب، ليس غرضه إثراء حقل الاجتماع وتبرير فرضياته، ولكنه بحث في صميم العملية الأدبية، باستقطابه زواياها الثلاث: المؤلف، الناشر، القارئ، ووصف رحلة الخطاب الأدبي عبر هذه القنوات، قبل استقراره في حقل القراءة، في شكل مميز، مستقل عن صاحبه وناشره وإن كان يحمل بصمات هذا وذاك غير أن الرحلة في كل محطة من محطاتها تطرح جملة من الإشكاليات المعقدة، والتي تمتد جذورها طولا وعرضاً لتلتحم بالمجتمع وأشراطه التطورية ونظمه الاقتصادية وذوقه السائد الفطري والموجه على السواء.

وهي إضاءات تطل على الظاهرة الأدبية: "إبداعاً وطبيعة ووظيفة، وعلى العوامل المؤثرة في تطور الأدب، وفي تغيير المدارس الأدبية، وفي ظهور أنواع أدبية جديدة وفي الكتاب وانتماءاتهم ومن خلال الاهتمام بمسألة الذوق العام ونوعية القراء ونوع استجاباتهم للأعمال الأدبية، وبأثر التقدم الصناعي والتكنولوجي والإنتاج بالجملة وبدور الناشرين".

وهي التي تعطي لسوسيولوجيا الأدب مشروعية الوجود، كرافد علمي لا يفسر الأدب بقدر ما يعمل على موضعة الظاهرة الأدبية في إطارها المتشابك، ويكشف للقارئ تعقد الشبكة وخطورة علاقاتها لأن: "وجود أفراد مبدعين يطرح مشاكل في التأويل النفساني والأخلاقي والفلسفي، كما تطرح الأثار نفسها مشاكل جمالية وأسلوبية ولغوية وتقنية، أما وجود جماعة الجمهور، فتطرح مشاكل ذات طابع تاريخي وسياسي واجتماعي، بل اقتصادي أيضاً. هناك على الأقل ثلاثة الآف طريقة لارتياد الحدث الأدبي ودراسته".

لقد حاول "روبير اسكاربيت" -من خلال- "سوسيولوجيا الأدب" و"المكتوب والتواصل" تفكيك نظم "الرحلة" في مستوياتها المختلفة، وتعرية علاقتها وما تثيره في تفرعاتها المذكورة آنفاً، ما دام كل فرع يثير جملة من الإشكاليات، لا يلتفت إليها الإبداع الأدبي -وإن كان يرفد دلالاتها في مجراه العام -وهي حاضرة في شكل "غياب" لا يعبأ به الكاتب /القارئ، ما دام الأول لا يستحضر في ذهنه إلاّ قارئاً يحاوره، ويلقي إليه مادته، وما دام الثاني يتجاوز الأول ويتخطاه عند أفق انتظاره، أو يبادله "صراعاً" يكون ميدانه "الدال" وتجدّدِه عند كل قراءة.

غير أن الشطر المغيب في ظاهرة التواصل يشكل أضعاف السطح العائم لجبل الجليد الطافي، فهو لا يدرك -مثلاً- حقيقة الأقطاب التي تتجاذب الخطاب الأدبي قبل بلوغه حقل القراءة.

ولعل الاهتمام بالجزء المغمور -من جبل الجليد- هو الذي يجبر سوسيولوجيا الأدب على ما يشبه الانقسام الخلوي في فروعه لتشكيل علم اجتماع القراء، وعلم اجتماع الكتاب، وعلم اجتماع موزعين، وعلم اجتماع الأنواع الأدبية، وعلم اجتماع الرواية -على النحو الذي أثاره "لوسيان غولدمان" قبلا - ولا يفهم من هذا الانشطار الخلوي، الحرص على التفريع من أجل التفريع وحسب، ولكنها التفاتة جادة لحصر أقطاب الظاهرة الأدبية وتحديد أبعادها.

ومن ثم رصد ميكانزماتها المختلفة، وتفكيك آلياتها حتى نستطيع إدراك العملية الإبداعية في أبعادها الاجتماعية، خاصة وأنها -اليوم- عرضة للتطور السريع في صراعها المستميت مع الوسائل السمعية البصرية الغازية لمختلف مجالات الحياة.

إذا كنا نفهم الواقع -قبل الفتح السوسيولوجي -على أنه تمظهر حياتي، يكتنف الأثر الإبداعي ويؤثر فيه ويوجهه، ويصبغه بصبغة خاصة، يتقاسمها الشرط الزمني/ المكاني، فإن هذه الصورة المبسطة القائمة على نظرة تجزيئية، تجعله خلفية قائمة وراء الأثر، لم تعد تكفي لفهمه، بل لم يعد الواقع كذلك في الطرح السوسيولوجي -حينما ننظر إليه طرفاً في المعادلة الثلاثية- فهو في جملته: "ليس إلاّ محصلة لجميع العلاقات المتشابكة بين الذات والموضوع، لا الماضية فحسب، وإنما المستقبلية أيضاً، ولا ينحصر في الأحداث الخارجية وحدها، وإنما يشمل أيضاً التجارب الذاتية والأحلام والنبوءات والعواطف والأخيلة".

فهو خارجي /داخلي، يمتدّ خارج الظاهرة الأدبية، فتحتلّ فيه حيّزاً شأنها شأن غيرها من الظواهر الأخرى، وهو يتماهى فيها ليجسّد ذاته من خلالها لا كانعكاسٍ آلي فوتوغرافي باردٍ، بل كإمكان قابل للتحقيق، يحبل به الأثر الأدبي ويدعو إليه ويُحضّ الجمهور على قبوله، أو يسعى لإيجاد قابلية له في الاعتقاد العام.

ذلك ما عناه "لوكاتش" في حديث عن "المهم" في الأدب إذ رآه في: "رصد صنيع السلوك الإنساني في مجراه المتغير، وتقييم تطوّرات النماذج الموجودة بالفعل، وقيام نماذج أخرى، وفوق كلّ ذلك التعرّف على العناصر الجوهرية داخل العملية التاريخية نفسها".

وقد أدرك "غولدمان" وعي "لوكاتش" المبكر بحقيقة الواقع، إذ لم يجد فيه البحث عن التطابق بين الإبداع والضمير الجماعي على مستوى المضمون فقط، وإنما على مستوى القيم والبنى التركيبية في كل منهما وخاصة على مستوى التماسك فيما بينها.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال