مسرحة التاريخ عند الماغوط في مسرحية (المهرج).. حضور التاريخ داخل المتخيل المسرحي وفق مبادئ محددة وبعد إيديولوجي يتجلى في ارتباط المسرحية بزمنها، أي بعيد هزيمة يونيو1967

إن مسرحة التاريخ عند الماغوط تتميز ببعدين أساسيين : بعد شعري يتصل بصياغة منظور خاص حول كيفية حضور التاريخ داخل المتخيل المسرحي وفق مبادئ محددة، وبعد إيديولوجي يتجلى في ارتباط المسرحية بزمنها، أي بعيد هزيمة يونيو1967.

فبخصوص البعد الشعري، يلاحظ أن المسرحية - بعد الانتهاء من مرحلة التقويض والنقد والسخرية من طريقة تشخيص شكسبير لبطل عربي، تقوم على ضرب مبدأ الحقيقة (تشير المسرحية إلى أن أرض المغرب التي أعطت الشهيد المهدي بن بركة لا يمكن أن تعطي عطيل بهذه المواصفات أي بمواصفات بطل يشغله عشقه عن قضيته القومية) - تبدأ مرحلة البناء النظري الضمني المتعلق بكيفية حضور التاريخ في النص المسرحي العربي. فبعد انتهاء فصل الغيرة، يعلن قارع الطبل:

"قارع الطبل : [...] لن نستسلم ولن نيأس مادام تاريخنا غنيا بالبطولات والمكارم زاخرا بالقيم والمعاني.

ويسر فرقة المسرح الجوال المناضلة من أجل أهدافه وأمانيه أن تقدم لجمهورها الواعي المثقف صفحة حية من تاريخنا المجيد.. فعطيل ليس البطل الوحيد في تاريخنا.. فحيثما قلبنا صفحات ذلك التاريخ.. نجد البطولات تزحم البطولات،والقائد يزحم القائد...".

في هذا السياق تستحضر المسرحية صفحتين متناقضتين من التاريخ العربي تتصلان بشخصيتين مختلفتين هما : هارون الرشيد وصقر قريش. وقد اختلفت ردود فعل الجمهور إزاء طريقة مسرحتهما.

فتشخيص هارون الرشيد أثار التصفيق والتهليل، في حين أن تشخيص قريش أثار احتجاجات جسدها الصفير والاستنكار:
"زبائن: (وسط التصفير وصيحات الاستنكار) هذا تزوير للتاريخ".

إن احتجاج الجمهور على الكيفية التي مسرح بها صقر قريش (رجـل يلبس كوفية وعقالا فوق البنطلون، يبالغ في التقطيب والتشنج، حذاؤه مثقوب، لا يعرف أن شهر أيلول هو سبتمبر، عاشق نساء؛ هكذا تصفه الإرشادات المسرحية) يعكس في العمق انتقادا لإخلال المسرحية بمبدأين أساسيين في محاكاة التاريخ هما: الحقيقي والمحتمل.

فليس من قبيل الصدفة أن تقيم المسرحية استراتيجيتها التقويضية على أساس دراما تاريخية شكسبيرية هي "عطيل"، لاسيما وأن شكسبير يجسد نموذجا لطريقة مميزة في تمثيل التاريخ مسرحيا لأجل إرساء قيم سياسية لها علاقة بالهوية القومية والحس الوطني.

وليس غريبا أن تنهض استراتيجية البناء على أساس تقديم التاريخ العربي بطريقتين مختلفتين: الأولى جسدت مبدأ الحقيقة (هارون الرشيد المتسلط والفصامي) واستحسنها الجمهور لأنها جاءت مطابقة لأفق انتظاره، وعكست بالتالي مبدأ الاحتمال أيضا.

والثانية ابتعدت عن الحقيقة ولم تستطع تحقيق قوة الإقناع (المقنع Persuatif له علاقة بالحقيقي والمحتمل في نظر أرسطو)، لأنها قدمت صقر قريش في صورة مبتذلة أثارت الاستنكار والرفض من لدن الجمهور.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال