إن انكشاف اللعبة المسرحية يساعد الجمهور على أخذ موقعه بشكل يسمح له بالتفاعل واتخاذ المواقف الملائمة.
وهكذا، نلاحظ أن الجمهور المكون من زبائن المقهى يبدي ردود فعل مختلفة تتراوح بين التصفيق، الاحتجاج، الاستنكار والتعليق على الأحداث.
كل هذا يجعلنا أما مسرحية قائمة على أساس تغريبي في الإنتاج (التركيب الحكائي) والتلقي (خلق المسافة بين الفرجة والمتفرج) في آن واحد.
بموازاة ذلك، تقوم مسرحية "المهرج" على مسرحة التاريخ، وذلك من خلال منظور يخلق توازنا بين التاريخ و "فانتازية" الكتابة الساخرة مع تغليب الجانب الثاني حتى يصبح التاريخ مجرد قناع أو ذريعة لطرح فكرة مأساوية".
ويتضح هذا البعد، جليا، في المستوى التناصي من المسرحية.
فهي تستحضر فصلا من مسرحية "عطيل" لشكسبير، وهو الفصل الذي اعتقد فيه عطيل أنه اكتشف خيانة دزدمونة له من خلال حكاية المنديل. لكن هذا الاستحضـار يتـم - عند الماغوط - بطريقة أخرى كشف عنها قارع الطبل، نفهـم منها أن الأمر لا يتعلق بعملية محاكاة لشكسبير، وإنما بعملية تحويل له:
"قارع الطبل: ... ويسرنا بهذه المناسبة أن نبدأ برنامجنا لهذا اليوم بواحد من أعظم كتاب المسرح في العالم ألا وهو شكسبير وبمسرحية من أعظم المسرحيات في العالم ألا وهي مسرحية عطيل (تصفيق) وسوف تشاهدون هذه المسرحية بحلة جديدة مشعة وأسلوب لم يطرق من قبل أبدا.
كل ذلك بفضل نخبة من الشباب المتمرد الطليعي الثائر (الممثلون ينحنون للجمهور)".
يتعلق الأمر، إذن، بمسرحية "عطيل" ليس كما صاغها شكسبير، وإنما بصيغة أخرى، أي "حلة جديدة مشعة وأسلوب لم يطرق أبدا" كما قال قارع الطبل.
إن هذه الحلة وهذا الأسلوب هما، في الواقع، إشارة صريحة إلى إجراءين تحويليين أساسيين يتصلان بالمحاكاة الساخرة، وهما: التحويل اللعبي Transformation Ludique الذي يقوم على أساس إزالة طابع النبل المميز للموضوع في نصه الأصلي الأول وإضفاء طابع الابتذال عليه، ثم التحويل الهجائي Transformation Satirique الذي يعمل على تكسير الأسلوب الجاد للمسرحية الأصلية وتعويضه بأسلوب مثير للسخرية والضحك.
من المعلوم أن الصراع التراجيدي الذي تقوم عليه مسرحية "عطيل" لشكسبير يتجسد من خلال انشطار عطيل بين الشرف من جهة، والحب من جهة أخرى. وفصل الغيرة في مسرحية شكسبير هو تشخيص للذروة التي بلغها هذا الصراع، لأنه وضع عطيل أمام محك حقيقي لكي يختار موقفا صارما، إما يجعله ينصاع لنداء أعماقه ويقبل الإهانة التي لحقت به، أو يقوم بالدفاع عن شرفه والانتقام من دزدمونة التي يفترض أنها خانته.
وباختصار، فموضوع المسرحية هو صراع قيم نبيلة (الشرف والحب)، دار في أجواء تراجيدية صاغها شكسبير، كعادته، بأسلوب شاعري ورؤية إنسانية منقطعة النظير.
إلا أن حضور عطيل في مسرحية "المهرج" سوف يتخذ مظهرا آخر ينسجم والطابع الساخر المميز لها. فالماغوط ركز على شخصية عطيل باعتبارها شخصية تاريخية بطولية تنتمي إلى الذاكرة المغربية والعربية.
لذا، فقضية الغيرة لم تعد قضية ذاتية تتصل بعطيل وحده، مما يعني إفراغ الصراع التراجيدي من محتواه النفسي الداخلي، وإنما هي قضية جماعية سياسية تتعلق بمصير أمة بكاملها:
"قارع الطبل: ... ولأن وقتنا من ذهب فلن نقدم المسرحية بكاملها، بل سنكتفي بفصل واحد منها، وهو الفصل المتعلق بالغيرة (الممثلون يصفقون) لأن الغيرة أيها الإخوة من أهم الأخطار التي تواجه أمتنا في الظروف المصيرية الراهنة..".
إن المسرحية حولت اتجاه قضية الغيرة لتعتبرها سببا في تخاذل عطيل وعدم قيامه بواجبه كبطل عربي، في مواجهة أعداء الأمة.
من هنا، نفهم ذلك الانتقال المفاجئ في مسرحية الماغوط من أجواء الغيرة إلى أجواء الإدانة السياسية، وبالتالي، من المناخ التراجيدي إلى المناخ الساخر الذي يحول الإدانة من الشخصية (عطيل) إلى الكاتب نفسه (شكسبير). فهذا الأخير سوف يصبح كاتبا استعماريا له علاقة ببريطانيا وأمريكا والحلف الأطلسي، أي بكل رموز الاستعمار والتسلط في العالم المعاصر:
" قارع الطبل: ولكن من المسؤول عن المصير المؤلم الذي لقيه هذا البطل المغربي الشجاع؟ من دمر حياته وحرمه من بيته وزوجته وطمأنينته؟
زبـــون: شكسبير.. شكسبير
زبـــون: يسقط الكاتب الاستعماري شكسبير
أصـــوات: يسقط. يسقط. يسقط".
إن مناخ السخرية السياسية الذي أصبح يؤطر الفعل التراجيدي الشكسبيري فرض بالضرورة أسلوبا يلائمه.
فالحوار الدائر بين المهرج في دور عطيل، والممثل الأول في دور كاسيو، يعكس، بشكل واضح، أن اللغة الشعرية الشكسبيرية لم تعد تفي بالغرض.
لذا، تم تعويضها بلغة ساخرة تعكسها فلتة اللسان Lapsus (ذكر نابولي عوض البندقية في حوار المهرج)، والتشبيهات التي تضفي الابتذال على الموقف (تشير إحدى الإرشادات المسرحية إلى أن عطيل "يخطف المنديل ويشمه ككلاب الأثر")، وردود الفعل التي تمزج بين سخرية الكلمة والحركة (موقف العطس).
وإذا كانت مسرحية "المهرج" تقوم بتحويل مزدوج: لعبي وهجائي لمسرحية "عطيل"، فإن استعمالها لهذه الاستراتيجية التناصية ليس مجرد حذلقة شكلية، وإنما هو ترجمة لرؤية فنية وإيديولوجية تقوم على تقويض شعرية تاريخية وبناء أخرى مكانها.
التسميات
بنيات ميتامسرحية