موضوع مسرحية (الأيام المخمورة) لسعد الله ونوس.. تعدد وجهات النظر السردية وتجريب لبنية تناظرية يتم تشخيصها والتفكير فيها في آن واحد

تحكي مسرحية "الأيام المخمورة" عن حفيد اكتشف مع نمو إدراكه وفضوله قرائن (الجدة المنسية التي لا يزورها أحد) تدل، بشكل يقيني، أن في عائلته دملا يتستر عليه الجميع، واقتنع أنه لن يستقر في اسمه وهويته إلا إذا اكتشف هذا الدمل وفقأه.

ولم يكن هذا الدمل، في الواقع، سوى حقيقة عائلة انفجرت من الداخل بسبب هروب الأم مع عشيقها بشكل نجم عنه تشتت أفراد العائلة وانخراطهم في مسارات مختلفة - بعضها مشبوه - تعكس كلها واقعا يعج بالتناقضات والحقائق الأخلاقية والسياسية الرهيبة.

لقد فتحت عملية البحث عن حقيقة دمل العائلة للنص آفاقا سردية وتخييلية واسعة، يؤكدها النص نفسه المتكون من ست وعشرين فصلا معنونا، ويزكيها نسيج الحكايات الممتد من البداية حتى النهاية، والذي يتناوب على سرد فصوله رواة متعددون، وتساهم في بنائه دراميا لقاءات وعلاقات ومواجهات بين الشخوص.

إن مبدأ التناظر الذي يؤسس للعملية السردية في النص قد فتح المجال لما يسمى - بلغة الدراماتورجيا - بتعدد مشاهد العبور Scénes de transition التي تشكل مشاهد فرقة الأراجوز مكونا أساسيا من مكوناتها.

إن الحفيد الذي يتراوح وضعه في المسرحية بين السارد أحيانا والمسرود له أحيانا أخرى ينفي إمكانية الخوض في حكاية هذه العائلة عبر منطق تسلسلي، لأنها تتضمن العديد من الأوهام والفجوات.
لذا، فالإحاطة بها سوف تتم دون تمحيص كبير ودون تركيز على حسن التتابع والتنسيق.

وبالفعل، فبعد عملية البحث التي حولت النص إلى متاهة سردية تتناظر فيها الحكايات وتتوازى فيها مصائر الشخصيات، سرعان ما يقتنع الحفيد بخلاصة أساسية ترجمها الشاب العامل ضمن فرقة الأراجوز وهو يشخص دور الحفيد:
"الشاب: وجدت الدمل دمامل، والطريق إلى الحقيقة متاهات وفجوات.
فلم أجد أمامي إلا أن أتخيل، وأركب المشاهد، وبدلا من الحقيقة أعـدت صياغـة العائلة في رواية".

إن عملية إعادة الصياغة هاته جعلتنا أمام متخيل مسرحي قائم علـى أساس تركيب متناظر لعدة حكايات متوازية، تشتغل كمرايا بالنسبة لبعضها البعض، وهي:
- حكاية سناء الجدة التي هربت من البيت لتقيم مع عشيقها حبيب، وما تخلل هذه الواقعة من خلفيات الهروب (كتابة رسالة للزوج، إقناع ليلى بالتكتم) وآثاره على العائلة (فقدان ليلى القدرة على الكلام، خروج سرحان وسلمى من البيت وانخراطهما في عوالم اللذة والممنوعات).

هذا بالإضافة إلى الوضع النفسي الذي عاشته سناء في بيت حبيب لاسيما بعدما وجدها ابنها عدنان وحاول قتلها، وهو الوضع الذي أدى إلى إصابتها بالاكتئاب والتفكير في الموت.

- حكايتا سرحان وعدنان. هذان الأخوان اللذان انحدرا من نفس البيت، لكن الأول الذي كان طالبا جامعيا سرعان ما تحول بمساعدة البوري إلى مهرب كبير استطاع تحقيق ثروة هائلة.

أما الثاني الذي كان دركيا فقد انتهى إلى اليأس بعدما ظل طيلة حياته يدافع عن قيم ثابتة انهارت بسبب هروب أمه.
- حكايتا الأختين ليلى وسلمى. الأولى أم الحفيد الباحث عن حقيقة العائلة والتي تزوجت من شامل السيروان المناضل وعاشت حياتها معه إلى حين موته في معركة ضد الفرنسيين، والتي أصيبت بإحباط شديد من جراء هروب أمها.

أما الثانية فقد اختارت الخروج من البيت ونحتت لنفسها مسارا مشبوها سرعان ما جعلها تصادف أخاها سرحان لتصبح شريكته في تجارة اللذة.

- حكاية عبد القادر الطحاوي الأب الذي طعن في شرفه وكرامته بسبب هروب زوجته سناء، وهي حكاية تستعاد فيها سلوكاته في الفراش الزوجي وعلاقته المنهارة مع زوجته، كما تستعاد أيضا حالات الإحباط التي تصل حد البكاء والتي كانت تفجرها في دواخله تساؤلات عن سر هروب زوجته، وكذا تفكيره في الزواج ونسيان ماضي سناء التي كان هروبها سببا في نشوء خلاف تجاري مع أخيها بهجت.

- حكايات فرقة الأراجوز التي كانت تتخلل النص من خلال مشاهد، شخص في أولها فصل المفاخرة بين الطربوش والقبعة، ورويت في المشهد الثاني حكاية موازية لحكاية سناء تتعلق بالعشق الذي نشأ بين صفية الحافي والشاب ابن أخ زوجها رفقي الغازي المناضل الوطني، والذي أدى بها إلى ارتكاب جريمة العصر وذلك بتسميم زوجها قصد التفرغ لهذا العشق، وما نتج عن ذلك من محاكمة مثيرة. أما المشهد الثالث لفرقة الأراجوز، فقد كان هو "فصل الملاعب والخواتم" الذي سردت فيه حكاية المسرحية كلها بشكل جعلها تتحول هي نفسها إلى مجرد حكاية موازية للحكايات الأخرى.

كل هذه الحكايات التي حاولنا لم شتاتها هنا وتنظيمها بشكل يسمح باستيعابها، لا تقدم في النص بشكل مباشر، وإنما تخضع لنوع من التوزيع شبيه بالتوزيع الموسيقي، يلعب فيه الكاتب دور "المايسترو" الذي يعرف متى يأذن لهذا العازف أو ذاك، لهذه الآلة أو تلك، بأداء مقطعها.

ويكاد يتحول أداء فرقة الأراجوز إلى ما يشبه "الكورال" مادامت مشاهدها هي صدى أو انعكاس لما يجري من أحداث في المسرحية. إن مشاهد هذه الفرقة تلعب دورا تجويفيا أساسيا داخل المسرحية.

إن نص "الأيام المخمورة" يقوم على تعدد وجهات النظر السردية، لأن الغاية منها هي الإحاطة بالحقيقة من وجوهها المختلفة.

وهذا التركيب السردي هو تجريب لبنية تناظرية يتم تشخيصها والتفكير فيها في آن واحد، وذلك قصد إقامة شعرية للمحكي المسرحي تقوض بنية التسلسل والتتابع (وهي بنية أرسطية كما نعلم) التي تعكس في العمق نوعا من الإيديولوجيا القائمة على التناسق والانسجام، وذلك بهدف إقامة بنية تناظرية مكانها تحيط بالواقع المتشابك.

فالواقع ليس متناسقا حتى يخضع تشخيصه لمنطق التسلسل بل هو مركب من فجوات وأوهام ومتاهات تحتاج إلى الملء عن طريق الخيال، كما تحتاج إلى حفر متعدد المستويات بهدف كشف حقيقته الضائعة التي يشبه ضياعها ضياع "إبرة في مزبلة"، كما جاء على لسان الأراجوز.

وما دام بلوغ الحقيقة شيء صعب ومتعذر، فإن التعويض عنها يتم عن طريق الحكاية. فالأراجوز يقول بلسان سعد الله ونوس نفسه:
"الأراجـوز: الحكاية وحدها هي التي تخفف العذاب وتداوي الجروح.وحين تعلم الإنسان كيف يـحول مصائبه إلى حكايــات تتقاسمهـــا الآذان والريــاح والأزمان، كان يكتشف بلسما سحريا للجروح والآلام".

ولعل ما يدفعنا إلى إقامة هذا الربط بين خطاب الأراجوز وخطاب المؤلف هو ما يفصح عنه مفهوم الكتابة ذاته عند سعد الله ونوس، ولاسيما في أيامه الأخيرة التي كان يواجه فيها شبح الموت بسبب إصابته بالسرطان.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال