تجربة الغربة والضياع والتمزق النفسي والاضطراب الداخلي والقلق الوجودي والغربة الذاتية والمكانية في الشعر العربي الحديث

تجربة الغربة والضياع والتمزق النفسي والاضطراب الداخلي والقلق الوجودي والغربة الذاتية والمكانية في الشعر العربي الحديث:


لم يظهر الشعر العربي الحديث أو مايسمى بشعر التفعيلة إلا بعد نكبة 1948م، وتعاقب مجموعة من النكسات والهزائم المتوالية وخاصة هزيمة 1967م.
وقد تأثر هذا الشعر الجديد بالمد القومي وانهيار الواقع العربي الفظ الذي زرع الشك في نفوس المثقفين والمبدعين، وأسقط كل الوثوقيات العربية التقليدية والثوابت المقدسة والطابوهات الممنوعة.

تأثير ثقافي:

كما كان للاحتكاك بالثقافة الأجنبية دور كبير في انفتاح هذا الشعر على كل ماهو مستحدث في الخارج لتجديد آليات الكتابة والتعبير به عن التسلح بمجموعة من المعارف والعلوم للسمو بهذا الشعر كالفلسفة والتاريخ والأساطير وعلم النفس وعلم الاجتماع والأنتروبولوجيا، واستيعاب الروافد الفكرية الآتية من الشرق وبالضبط المذاهب الصوفية والتعاليم المنحدرة من الديانات الهندية والفارسية والحرانية (الصابئة)، والتأثر بأشعار الجامي وجلال الدين الرومي وفريد العطار والخيام وطاغور فضلا عن الاستفادة من الفلسفة الوجودية والفلسفة الاشتراكية والتفاعل مع أشعار أودن وبابلو نيرودا و وپول إيلوار ولويس أراگون وگارسيا لوركا وماياكوفسكي وناظم حكمت والاستعانة بقصص كافكا وأشعار ريلكه وإليوت مع الانفتاح على الثقافة الشعبية كسيرة عنترة بن شداد وكتاب ألف ليلة وليلة و سيرتي: سيف بن ذي يزن وأبي زيد الهلالي، والتعمق في القرآن الكريم، وقراءة الحديث النبوي الشريف، والتجوال الدائم في الشعر العربي القديم.

اكتشاف الإنسان والعالم:

وصار الشعر وسيلة لاكتشاف الإنسان والعالم، كما كان فعالية جوهرية تتصل بوضع الإنسان ومستقبله إلى المدى الأقصى، وبدأ الشاعر يحمل رؤيا للإنسان والحياة والكون والوجود والقيم والمعرفة.
بل أصبح الشعر الحديث أداة لتفسير العالم وتغييره.

ولا يعرف الشاعر الحديث معنى الاستقرار فهو كثير التنقل تناصيا وكثير الترحال معرفيا، فقد "طوف مع يوليس في المجهول، ومع فاوست ضحى بروحه ليفتدي المعرفة، ثم انتهى إلى اليأس من العلم في هذا العصر، تنكر له مع هكسلي، فأبحر إلى ضفاف الكنج، منبت التصرف، لم ير غير طين ميت هناك، وطين ميت هنا، طين بطين، ولا تقف رحلة الشاعر الحديث عند حدود الزمان والمكان والتاريخ والحضارة، فقد حمل صليبه مع المسيح، وحمل صخرته مع سيزيف، وعاقر الأتراح والآلام مع كلكمش في رحلته الطويلة بحثا عن شجرة الخلود، ومع الحلاج في مأساته بين البوح والكتمان، ورهن المحبسين مع أبي العلاء، قرأ اسمه على شاهد قبره، وقرأه على الآجر المشوي في أطلال نينوى، وعلى الصوامع المهدمة في أحياء نيسابور، حتى إذا أعياه الضرب في الأرض، ألقى عصاه في انتظار الذي يأتي ولا يأتي".

تعبير حضاري:

ومن ناحية أخرى، أصبح الشكل الشعري الجديد يعبر عن ثمار الرؤيا الحضارية الجديدة، بعد أن أفرزته مجموعة من النكبات والنكسات والهزائم.
ومن هنا، فقد استوى الشكل الشعري الجديد مع مجموعة من الشعراء المحدثين كبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور وخليل حاوي وأدونيس وعبد الوهاب البياتي...
ومن الموضوعات التي نصادفها بكثرة في شعرنا العربي الحديث نلفي تجربة الضياع والتمزق النفسي والاضطراب الداخلي والقلق الوجودي والغربة الذاتية والمكانية تأثرا بشعر توماس إليوت صاحب القصيدة الشهيرة "الأرض الخراب".

تردي القيم الإنسانية:

فنموذج الآفاق عند الوهاب البياتي "ليس سوى رمز للإنسان الضائع الذي اضمحل وجوده في الحضارة الأوربية كما يتصوره إليوت"، وتأثرا أيضا بأعمال بعض الروائيين والمسرحيين خاصة الروايات والمسرحيات الوجودية التي ترجمت إلى اللغة العربية، ودراسة كولن ويلسن عن" اللامنتمي"، علاوة على عامل المعرفة، وكل هذا جعل الشاعر الحديث يعاني من الملل والسأم والضجر واللامبالاة والقلق.
وبدأ يعزف أنغاما حزينة تترجم سيمفونية الضياع والتيه والاغتراب والانهيار النفسي والتآكل الذاتي والذوبان الوجودي بسبب تردي القيم الإنسانية وانحطاط المجتمع العربي بسبب قيمه الزائفة وهزائمه المتكررة.

نغمة تراجيدية:

وتحضر هذه النغمة التراجيدية في أشعار أدونيس في قصيدة "الرأس والنهر" من ديوان "المسرح والمرايا"، وعند عبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور في قصيدته "مذكرات الصوفي بشر الحافي" من ديوان "أحلام الفارس القديم"، و لدى عبد المعطي حجازي.
وتتنوع الغربة في أشعار المحدثين لتشمل الغربة في الكون، والغربة في المدينة، والغربة في الحب، والغربة في الكلمة.
وتعني الغربة في الكون ميل الشاعر إلى الشك في الحقائق والميل إلى التفلسف الأنطولوجي (الوجودي)، وتفسير الكون عقلا ومنطقا، والدافع إلى ذلك أن الشاعر يحس بالعبث والقلق والمرارة المظلمة كما نجد ذلك في نصوص صلاح عبد الصبور وبدر شاكر السياب وأدونيس ويوسف الخال.

الغربة في المدينة:

أما الغربة في المدينة، فتتجلى في تبرم الشاعر الحساس من المكان المديني الذي حول الإنسان إلى مادة محنطة بالقيم المصطنعة الزائفة، وهذا المكان المخيف هو المدينة العربية المعاصرة التي علبت الإنسان وشيأته، وأضحت بدون قلب أو بدون روح، فالقاهرة بدون قلب عند عبد المعطي حجازي، ونفس الشيء يقال عن بغداد السياب وبيروت أدونيس وخليل حاوي.

وتتخذ المدينة في شعر هؤلاء قناعا سياسيا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا، وتمثل وجه الحضارة بكل أبعادها الذاتية والموضوعية.
وعليه، فقد صور الشعر الحديث المدينة في ثوبها المادي كما عند الحجازي، أو الناس داخل المدينة وهم صامتون يثقلهم الإحساس بالزمن كما في جل أشعار عبد المعطي حجازي في ديوانه "مدينة بلا قلب".

ويلاحظ أن الشعراء المحدثين لم يستطيعوا الهروب إلى الريف أو إلى عالم الغاب كما فعل الرومانسيون، بل فكر السياب أن يهرب إلى قريته جيكور في الكثير من جيكورياته، ولكنه وجد أن المدينة تحاصره في أي مكان وتطوقه بأحابيلها المادية الإسمنتية، ولم يجد صلاح عبد الصبور أيضا سوى أن يجسد الخلاص في الموت كما في قصيدة "الخروج".

الفشل في الحب:

وإذا كان الشاعر الحديث قد فشل في فهم أسرار الكون ووجوده، وفشل كذلك في التأقلم مع المدينة، فإنه فشل كذلك في الحب الذي أصبح زيفا مصطنعا وبريقا واهما.
ومن ثم، تتحول العلاقة بين الزوجين إلى عداوة وقتال كما في قصيدة "الجروح السود" عند خليل حاوي في ديوانه "نهر الرماد"، أو يموت الحب عند عبد المعطي حجازي أو يصاب بالاختناق عند صلاح عبد الصبور.

غربة ذاتية:

هذا، و تعيش الكلمة غربتها الذاتية في واقع لايعرف سوى الصدى وخنق الجهر وقتل الكلام الصارخ الذي قد يتحول إلى حجر عند أدونيس في قصيدة "السماء الثامنة" من ديوان "المسرح والمرايا".
وقد يلتجئ الشاعر إلى الصمت كما عند البياتي في قصيدة "إلى أسماء" من ديوان "سفر الفقر والثورة".
ومن هنا، فالغربة في الكلمة، أو في المدينة، او في الحب، "ليست سوى وجه واحد من عدة أوجه، يمكن تصورها لغربة الشاعر العربي في واقع ما بعد النكبة".

المزج بين ألوان الغربة:

ويلاحظ أن هناك من الشعراء المحدثين من وقف عند لون واحد من الغربة، وهناك من مزج بين لونين، وهناك من تحدث عن الألوان الثلاثة للغربة، وهناك من جمع بين الأربعة في وحدة شعرية منصهرة: "تلك الوحدة سوغت له أن يمزج في بعض الأحيان، بين لونين من ألوان الغربة في القصيدة الواحدة، على نحو ما فعل إبراهيم أبو سنة حين مزج بين الغربة في الحب والغربة في المدينة، في قصيدة له بعنوان "في الطريق".

وعلى نحو ما نجد عند صلاح عبد الصبور، الذي يمزج بين الغربة في المدينة، والغربة في الكلمة في قصيدة" أغنية للشتاء".
وقد يمضي بعض الشعراء بعيدا، فيمزج في قصيدة واحدة بين ألوان مختلفة تتعدى ما سبقت الإشارة إليه من ألوان الغربة، كما هو الشأن في قصيدة" فارس النحاس" لعبد الوهاب البياتي"، التي جسدت الغربة في المكان والغربة في الزمان والغربة في المدينة والغربة في العجز.
وهذه الغربة تتفرع عنها الغربة في الحياة والغربة في الموت والغربة في الصمت.
وهذه النظرة الشمولية للغربة تنطبق أيضا على قصيدة يوسف الخال" الدارة السوداء".

تجربة الضياع والغربة:

وقد تتداخل تجربة الضياع والغربة في قصائد الشعراء المحدثين مع تجربة اليقظة والأمل. وإنه من المفيد أن نشير بصفة عامة، إلى أن إيقاع التجدد والبعث والأمل بلغ أوجه في الارتفاع والتألق، في الفترة الواقعة بين تأميم القناة، وبين واقعة الانفصال بين مصر وسورية.
على حين بدأ إيقاع اليأس يسود بعد هذه الحادثة الأخيرة، وأن نشير بصفة خاصة، إلى أن استجابة الشاعر للإيقاع السائد في المرحلة، لاتكون استجابة مطلقة.

وسبب هذا الضياع عند الشعراء المحدثين هو تأثرهم بالأدب الوجودي كما عند سارتر وألبير كامو، ومن الشعراء الذين تغنوا بالسأم الوجودي والقلق والاغتراب والضياع نستحضر كلا من صلاح عبد الصبور في قصيدة "الظل والصليب "من ديوان" أقول لكم"، وكما حصل في بعض قصائد عبد الباسط الصوفي من ديوانه "أبيات ريفية" كقصيدة "قصيدة ومقهى"، وقصيدة "أحزان قديمة"، وقصيدة "تثاؤب".

وقد دفع هذا اليأس وهذا الضياع عند الشعراء المحدثين بعض النقاد( حسين مروة، وجلال العشري، ومحمود أمين العالم، وفاروق خورشيد) إلى اتهام هذا الشعر الجديد بالسلبية والنكوص والضعف والاستسلام والميل إلى الذاتية الباكية على غرار الرومانسيين الوجدانيين.

تجربة شعراء التيارات الذاتية:

بيد أن أحمد المجاطي يدافع عن هذه التجربة بقوله: "إن هذه النغمة المستوردة هي التي حملت بعض النقاد على اتخاذ مواقف متحفظة من تجربة الغربة كلها، ولاشك أن موقفهم هذا، ناتج قبل ذلك من الخلط بين ماهو أصيل من تلك التجربة، وبين ماهو غير أصيل، وإن الخوف المبالغ فيه من كل مايمت بصلة إلى الحزن والضياع والتمزق، كأن الحياة نزهة مترفة، لامكان فيها للخوف، والتردد، والرعب، وكأن الشعر لايملك أن يكون إيجابيا حتى وهو يشق العظام ليؤكد وجود المادة النخاعية" كما يقرر روزينتال".

أما الشيء الذي يؤسف له فهو أن موقف هؤلاء الباحثين قد قادهم إلى تجاهل النجاح الذي حققته هذه التجربة، وهو نجاح يرجع إلى أن الهم الذي عانى منه الشاعر الحديث، لم يكن هما فرديا كالهم الذي أغرق تجربة شعراء التيارات الذاتية، في الظلمة والقتامة، واليأس، إنه هم جماعي نابع من تفتت الأرض تحت أقدامنا، ومن ارتفاع أسوار الحديد أمام كل خطوة نخطوها، نابع من قصر عصر الأفراح، التي تبزغ في سمائنا بين الحين والحين، فنحسب أنها الفجر الصادق، حتى إذا فتحنا أذرعنا للقاء المنتظر، تكشف أقنعة الضوء عن أنياب الفزع والموت.

تجربة الحياة والموت:

إن هذه الغربة هي غربتنا، وكل صوت نرفعه في وجه الشعر حين يشير إليها يجب أن يتحول إلى فعل، وأن يكون هدف ذلك الفعل، الواقع العربي، لامكان للحسرة في نفوسنا وكلماتنا.
لا أريد بهذه الكلمة أن أدافع عن تجربة الغربة، ولكن هدفي هو لفت النظر إليها، وعلى الدور الذي لعبته في تهييء الشاعر الحديث لتجربة أخرى... وهي تجربة الحياة والموت".
بيد أن أحمد المعداوي سيعتبر تجربة الغربة والضياع تجربة سلبية فاشلة وجدت نفسها في طريق مسدود كما أثبت ذلك في كتابه "أزمة الشعر العربي الحديث" في الفصل الثالث المخصص للرسالة الشعرية.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال