رسائل إلى أصدقاء بعيدين.. إلى أمجد ناصر. تحت سماء غرناطة المرصعة بالنجوم بدأت صداقتنا أيّها البدوي المنفعل دائما أبدا

أتدري أيها البدوي المنفعل دائما وأبدا، المنفعل حتى في لحظات المرح والسعادة، متى بدأت صداقتنا؟
قد تقول إنها بدأت في امستردام أواسط ذلك الربيع الممطر حين ضحكنا حتى أن حسن نجمي كاد يسقط في النهر، أواخر الليل ونحن في طريقنا إلى الفندق. أذكر أنك كنت منشغلا حينها بمحادثات السلام في الشرق الأوسط بين اسحاق رابين وياسر عرافات، في حين كنت أنا جدّ فخور بنفسي لأنني تمكنت أخيرا من فك ألغاز 'يوليسيس'، رائعة جيمس جويس. وقد يتراءى لك أنها بدأت في القيروان لما رأيت تلك الطالبة ذات العينين الدعجاوين والتي كانت تحفظ عن ظهر قلب بعضا من قصائد بودلير ورامبو وجيراردي نوفال. وقد يتبادر إلى ذهنك أنها بدأت في ذلك الـ 'PUB' المعتم المواجه لبيت صديقنا المشترك صموئيل في ضاحية 'برادفورد' ( آه.. لقد أصبح لذلك الوغد الآشوري الذي سلخ أرصفة مدن الشرق والغرب أزيد من عشرين عاما بيت في النهاية!) حيث ننزوي بين وقت وآخر لنشرب حتى ننسى الشعر العربي المريض وأهله... كل هذا قد يكون صحيحا. لكن دعني أقل لك متى بدأت صداقتنا أيها البدوي المنفعل دائما وأبدا...
أتذكر تلك الليلة البنفسجية الدافئة مطلع شهر أيار/ مايو 1998 لما فررنا إلى بارات 'حي البيازين' بغرناطة هربًا من ضجيج وأكاذيب المثقفين العرب... كانوا قد جاؤوا من كلّ حدب وصوب بعقدهم التي ورثوها عن قبائل الربع الخالي مضافة إليها تلك التي اكتسبوها من الهزائم التي مُني بها قومهم على مدى القرن العشرين بكامله، لكي يتدارسوا حسب زعمهم أوضاع الثقافة العربية في نهاية القرن. جاؤوا متخفين وراء الأقنعة المعتادة. بعضهم وراء البنيوية. البعض الآخر وراء ما بعد الحداثة. آخرون هرعوا إلى هناك لكي يثبتوا لنا أنهم باتوا يتقنون لعبة التأرجح بين الأصالة والمعاصرة. وثمة من جاء بصحبة عائلته كلها بمن في ذلك أحفاده الذين ولدوا للتوّ لكي يقفوا على أمجاد العرب في غرناطة أيام العز ذلك أن الماضي بالنسبة لهم هو الحقيقة بعينها، أما ما تبقى فسراب وقبض ريح. أمّا نحن فقد جئنا وأيدينا على قلوبنا كما يقول التونسيون، خشية أن يجهز المؤتمر الضخم الذي دعينا إليه، والذي استغرق إعداده عامين بالتمام والكمال، على ذلك النزر القليل الذي تبقى لنا من أحلامنا وأوهامنا القديمة التي دمّرتها الخيبات المرة... ولم يطل انتظارنا. فبعد غداء على شرفهم في قصر 'شارل الخامس' على بعد أمتار من 'قصر الحمراء'، فيه أكلوا وشربوا حدّ التخمة، شرع المثقفون العرب في سلخ جلود بعضهم البعض، محمّلا كل فريق منهم الفريق الآخر مسؤولية الخراب الذي أتلف الأخضر واليابس، وأذبل شجرة الإبداع، وأطفأ منارة الفكر، وأشعل الفتن بين هذا الشعب أو ذاك، أو بين هذه الفئة أو تلك، وأصعد ذلك العسكري الجاهل إلى سدة الحكم، وأخرج الأصوليين من القمقم، وحوّل أمة العرب إلى أسوأ أمّة بعد أن كانت خير أمّة أخرجت للناس... وعلى مدى يومين كاملين، من أول الصباح حتى آخر المساء، تواصلت الخطب الرنانة، وتواصل الصياح والزعيق والسلخ والسبّ والشتم، ونحن هناك في الصفوف الخلفية، نتابع المشهد البشع حيارى صامتين. وفي لحظة ما، بدا لنا أن تلك القاعة الأنيقة المطلة على حدائق 'جنّة العريف' باتت تعكس ما يجري في العالم العربي من دسائس ومؤامرات ومظالم وحروب قبلية وعرقية ودينية، وخيّل لنا أننا نشم روائح جثث تتعفن، وأننا نرى دماء تسيل بغزارة، وسيوفا تقرع السيوف. عندئذ نهضت أنت. وبذلك الانفعال البدوي الجميل، السلاح الوحيد الذي تبقى لك للدفاع عن نفسك أمام عالم بلا قيم، صببت عليهم جام غضبك، وعرّيت أكاذيبهم وزيفهم وأنانيتهم وأحقادهم ودناءاتهم وعقدهم وأمراضهم ممزقا كل تلك الأقنعة التي يتفنّنون في التحفّي وراءها. ولما باتوا أمامك شبيهين بفئران مذعورة، دفعت بي خارج القاعة صائحا: 'تعال.. لتذهب بعيدًا عن زريبة الخنازير هذه!'.
وخرجنا إلى ليل غرناطة البنفسجي المعطر بروائح زهور حدائق 'جنّة العريف' لنتيه بين بارات 'حي البيازين'. ووسط الغَجَرِ الذين كانوا يغنون ويرقصون، نسينا الوجوه الكالحة التي كدّرت حياتنا على مدى يومين كاملين، وغدت تلك الألسن الشريرة التي لا تتقن غير النميمة والكذب والخداع، وتلك العيون الخبيثة التي تشع مكرًا ودناءة، وتلك البطون المنتفخة في فرط الكسل والخمول، وتلك الرؤوس الصلعاء الفارغة، وتلك الأصوات البغيضة المقرفة، وتلك الأقنعة البشعة، وكأنها شيء من الماضي البعيد. وبدورنا رقصنا نحن وغنّينا ضاربين كؤوسنا بكؤوس الغجر الطيبين، أبناء عمّنا.
تلك الليلة، تحت سماء غرناطة المرصعة بالنجوم، بدأت صداقتنا أيّها البدوي المنفعل دائما أبدا.
حسونة المصباحي
ميونيخ 14/9/2000

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال