نموذج للمقال الوصفي.. ذكرى اليوم الـمطير والسيل الخطير - الأستاذ/ عبد القدوس الأنصاري

السماء مكفهرة، والسحب مضطربة، تتجمع في منطقة واحدة هي سماء مكة فتبدو للناظرين سماءً من تحت السماء وأرضًا من فوق الأرض، والرعد يجلجل بصوته الـمرعب بين تلك السحب، والبروق تلمع من خلال الغيم كما تلمع الشهب في الليلة الدهماء، والريح تسوق قطعان السحب الـمتخلفة لتحشرها في هذا الـموقف الرهيب.

بذلك الـمنظر الرائع انشق فجر ليلة الأربعاء، وبذلك الـمشهد الـمؤثر تجلت صفحة السماء، وما هي إلا ساعة من نهار حتى سكن كل شيء، فقد تم كل شيء، وكان هذا السكون الـموقوت طليعة للحركة العظيمة القادمة، ثم تفتحت ميازيب السماء بمطر منهمر جلَّل آفاق مكة فهدأت الأصوات وجثم كل شيء في مكة، واستمر الوابل في فيضانه زهاء أربع ساعات، فارتوت الأباطح، وأرسلت إليهم قمم الجبال ما استقبلته من هدايا الـماء.
 وسال وادي إبراهيم سيلا هائلا ذكَّر الناس بأيامه التاريخية الـماضية.

وتطلعتُ من شرفة منزلي ــ بجبل عمر ــ إلى تيار هذا السيل الـمتلاطم وهو يتدفق وتمتد أعناقه كالآفاعي الهائجة في "السوق الصغير" وفي الهجلة " مُنْصَبًّا بِكَلْكَلِهِ على "الـمسفلة" فرأيت منظرًا جمع بين الروعة والرهبة، والجلال والجمال، واستطال السيل ومد أصابعه الحادة إلى سقوف الحوانيت ورفوفها فأنزل ما بها من أشياء، واخترق السقوف ثم هوى بها هويا فابتلعها بطنه الغرثان، فإذا هي في خبر كان... وتزايد انهمار الـمطر وتعانق الـمزن من جديد فبـدت صفيحـة نحاسيـة قاتمة لا ثقوب فيها ولا شقوق، وأرسلت كل ما في باطنها من مياه وبَرَد، فآد ثقل تلك الـمياه ولكمات هذا البرد سطوح الأماكن فجثم بعضها من ثقل ما حمل، كما يجثم البعير الهزيل إذا آده الحمل الثقيل.

وأدرك الناسَ شيءٌ من الوجوم والقلق ، فكل منزل عرضة  للانهيار إذا استمر السحاب يجود بهذا الـمطر، وأذن الظهر فما سمع الناس من الأذان فقرة، ولا أدركوا منه نَبْرَةً، وطفح الـمسجد الحرام بالـماء والطين، وارتفع الـماء حتى لا مس الحجر الأسود، وبدا صحن الـمسجد كبحيرة تموج بالمياه، وظل الـمطر يتدفق وأيدي الريح تعابثه في غير هوادة، وقوي تيار السيل وامتدت ألسنته إلى الـمنازل الـمجاورة فخر بعضها على أمِّ رأسِهِ، حتى إذا دنا العصر كف الـمطر فجأة، وما كاد الناس يصدقون بإقلاعه من هول ما شاهدوا من قوة انهماره، وتنفس الناس الصُّعْداءَ، وأفاقوا من غشية الحادث الجلل، ولكنْ ما بالُ هذه السحبِ حائمةً في الأجواء؟ لعل للمطر عودة !!!! هذا ما كان شغل الأفكار طِيلةَ ذلك اليوم والليلة التي تليه، واليوم الذي أعقب هاتيك الليلة.

وهكذا كان هذا الـمطر الزاخر، وهذا السيل الجارف ــ سيل عام 1360هـ حديث الخاص والعام طيلة هذا الشهر، وسيظل حديثهم حقبة من الدهر؟
أحدث أقدم

نموذج الاتصال