يوازن الفيلسوف الفرنسي آلان بين المألوف التربوي والمطلوب الإنساني، معلناً لا إنسانية «المألوف» مركزاً على أولوية التعلُّم، مشيراً إلى أن هذا كشف واكتشاف لكنوز وخبايا.
فهو مثلاً يتساءل «كيف تتعلم إحدى اللغات؟»، ثم يجيب «بمؤلفيها الكبار لا غير، وبالجمل المرصوفة جداً، الغنية جداً، العميقة جداً، لا بترهات مبادئ المحادثة».
وغاية العلم الأولى هي تطور العقل الإنساني وإغناؤه باستمرار.
ومعنى ذلك أن على العقل التخصص أي التثقف في شيء معين، بدلاً من اللهث وراء كل شيء، فتكون الحصيلة المعرفة مألوفاً عاماً لا يساعد على التقدم في العمق.
وعلى هذا، يكون دور المدرسة مقرِّراً: «إن المدرسة مكان رائع» يقول آلان ـ ويضيف: «ولا استصوب أبداً أن تعلّق أشياء للنظر ولو كانت جميلة، لأن الانتباه يجب أن يلفت إلى العمل، ليقرأ الطفل او ليكتب أو ليحسب، إن هذا العمل المجرَّد هو عالمه الصغير الذي يجب أن يكفيه».
ويحسم آلان تحديد دور المدرسة بالعمل، فالعمل عنده هو المؤدي التربوي، وهو بذلك المؤدي الصعب إن لم نقل الأصعب والأخطر، ويترتب على ذلك تعيين مهنة الطالب بالعمل الصعب، وتعيين مهنة المربي بوصل الأفكار الجديدة بالقديمة.
وتتقاطع المهنتان هاتان فيما يسميه آلان مدرسة الشعور أي المدرسة الطبيعية كالأسرة، والمختلفة عنها في آن، المدرسة التي تطور كمالها الذاتي بنفسها.
من جهة ثانية، ينتقد آلان السلوك الطفولي لدى الكبار، فيرسم صورة المعلم اللامبالي، القوي بذلك كأنه المُناخ، ويشير إلى ظهور العدالة التي تفوق المحبة في المدرسة.
فالفعل التربوي، بنظر آلان، هو فعلٌ وجوبيٌ، ضروري ولا مجال للمخادعة أمام الضرورة.
ومن الضرورات هذه أن يتنبه الكبار لنوع علاقتهم بالصغار: «إن على كبار الأشخاص ألا يلعبوا قط مع الأولاد، ويخيل إلي أن الموقف الأكثر تعقلاً هو التزام الأدب والتحفظ معهم على نحو ما يكون مع الشعب الأجنبي، عندما يجد الطفل نفسه منفصلاً عن أطفال في مثل عمره، فإنه لا يلعب جيداً إلا وحده».
وينفي آلان وجود الفكر الحق خارج المدرسة بمعناها التعلُّمي الأوسع، ويقابل الهندسة بالشعر، بوصفهما مفتاحين للنظام في الطبيعة وفي النفس، مادحاً التناظم الإنساني الشامل للعقل والشعور في آن واحد.
أما المعلِّم الأكبر، الأول، فهو الخبرة في كل حال، لأن الحقيقة تحقق، وما تبرزه الخبرة حقيقياً، وصحيحاً يكتسب مصداقيته من وقوعه واختباره، والمتعلّم، الذي تصاغ شخصيته في الحضور المتصل بالماضي، يحتاج دائماً وأبداً إلى المستقبل، أي إلى الانطلاق من المعطى المحدد إلى اللامحدد، الآتي.
ويحذر آلان مما يتعلمه الجمهور على نحو خاطئ، لأن الجمهور «يتخيل أن الحقيقة الأخيرة هي التي تلائمه، ولكن الحقيقة لا يمكن أن تفرغ هكذا من فكر إلى آخر، وهي ليست شيئاً إزاء ذلك الذي لم يكتسبها ابتداءً من الظواهر...».
وينتقد آلان الاتجاه المشدّد على معرفة العالم للمتعلم، مفضلاً على ذلك «معرفة ماذا نعلّم» بوصفها هي الأهم في العملية التعليمية.
ويصل آلان إلى مقولة هامة تقول بجماعية أو اجتماعية التربية، وحاجة الإنسان الدائمة إلى محيطه الإنساني، حيث التحاور والتخاطب بين البشر يولّد عندهم عوامل التغيّر البطيء، المتصاعد، أو الطفرة.
وينصح آلان باستشفاف الإنسان في سبيل معرفته، يقول: «إذا أردتم ان تعرفوا إنساناً فيجب أولاً أن تُجالسوه، وان توقفوا موجات الحرارة أو البرد، والضجيج المسيء ابتداءً من صوتك أنت، وبالتالي أن تزيح جميع العقبات الصغيرة المعيقة، وبعد ذلك تجد الطبيعة الثابتة..».
ثم يعقد مقارنة أدبية فريدة بين تاريخ الأفكار (العقول) وتاريخ الأدوات (الأيدي)، مبرزاً وسيلتين للثقة بالنفس: التدريب والتعليم كنقيضين.
فالتعلم لا يفوق المعرفة، لأن فيه كثيراً من التقليد، وصورته الآلة التي توجه إليه وكأن التعلم يد آلية، أما مصدر الثقة، مرجعها الاجتماعي، فاثنان: المدرسة والمصنع، المدرسة تجعل الإنسان يثق بنفسه، والمصنع يجعله لا يثق بنفسه أبداً.
وبهذا النمط التقريري أيضاً، يطرح آلان مسلسلاً مألوفاً من الشعارات التربوية مثل «السير من المعلوم إلى المجهول» «من البسيط والمجرّد إلى الحسي والفردي»، «كل معرفة حقيقية اختبار» الخ.
ثم يميِّز بين مهنة المعلم ومهنة المفتش، مظهراً أن الأخير يتولى التحقق من كون التلامذة تعلّموا شيئاً، ومن كون المعلم يعلّم، ويحرِّض على القراءة بالنظر، ويشجع على الإملاء الذاتي (الإملاء الصامت)، والسلوك العرفي والعادي في التعلُّم، لأن «الشذوذ يحرّض على الفتنة والرعب حول الإنسان وفي الإنسان..، فيجب إذن على الإنسان أن يلبس تبعاً للعرف، ويسلّم تبعاً للعادة، ويتحدث ولا يصيح، ويكتب في النهاية تبعاً لأصول الإملاء: يقال: «إن ضبط الإملاء عسير، ولكن الرقص والتأدب عسيران أيضاً، إنهما مفيدان عندما يعرفهما الإنسان ومفيدان، كذلك، عندما يتعلَّمهما».
التسميات
تاريخ التربية