محتمل أن تكون قد قرّرت مواصلة مسيرة معلمك الروحي محمد المرزوقي، مواطن مسقط رأسك دوز، حتى قبل أن تخرج من بطن أمك في ذلك العام الذي كان هو يذرع فيه فيافي الجنوب وأحراشه مُقتفيًا آثار البدو، وفيما كان المثقفون التقدّميون يثرثرون في حانات 'باب البحر' عن الثورة الحمراء، وعن الصراع الطبقي مرتدين السترات الماوية، ومطلقين لحاهم على شاكلة لحية تشي غيفارا. محتمل ذلك. ففي عينيك ما يدلّ على أنك جئت إلى هذا العالم بحميّة ذلك الرجل القصير القامة الذي قطع المسافة بين دوز والعاصمة راجلاً، مدفوعًا بتصميم على أن يخلد اسمه في تاريخ هذه البلاد التي تقسو على أبنائها الملهمين فتهملهم وتتركهم عراة أمام عواصف الأيام حتى إذا ما رحلوا إلى العالم الآخر استوحشتهم. وآنئذ تهيم حبّا بهم، حبّاً لا طعم له ولا مَعْنى...
مبكّرًا، شرعت العائلة الكبيرة ترسم لك مستقبلك. 'لتكن مثل أعمامك أو لا تكون!' كان أفرادها يردّدون من حولك في الليل كما في النهار. وكان أعمامك قد اختاروا أن يكونوا قضاة وفقهاء سعيا منهم للحفاظ على مجد العائلة وعلى مكانتها الرفيعة بين قبائل الجنوب. أما أنت فكنت تعلم جيّدا من يوم كلمك معلمك الروحي وأنت لا زلت في بطن أمك، بأنك سوف تخون العائلة الكبيرة ذات يوم رافضا السير في نفس الطريق الذي سار فيه أعمامك، ذلك أن صيانة المجد القبلي القديم ليس أمرًا يعنيك...
وبما أنك كنت تعلم أن من يسعى على 'ليّ العصا' في يد القبيلة قبل الأوان يمكن أن تنكسر رقبته ويخسر الحاضر والمستقبل، فإنك كتمت سرّك في صدرك مثلما يفعل المؤمن الأبكم بإيمانه. وحدها كثبان الرمال في الصحراء التي كنت تتيه بينها بين وقت وآخر كانت تبارك عزمك لأن صداقتها للشعر والشعراء قديمة قدم الكون...
ثم جاءت الساعة التي ظللت تنتظرها طويلا. ساعة تحقيق ذاتك خارج سلطة القبيلة. وها أنت تركب الحافلة باتجاه العاصمة خافق القلب، مسكونا بوجل الشعراء حين يشرعون في كتابة القصيد الأول. ولم تكن رحلتك تلك أقل عذابا ولا أقل طولا من رحلة معلمك الروحي إذ أن حافلات الجنوب أكثر بطئا من الأحمرة المتقرّحة الظهور.
عند وصولك إلى هناك مطلع خريف ذابل هرعت على حيث تفتضّ بكارات الفتيان من أمثالك. وفي ليلة واحدة أجهزت بين أحضان غانيات المدينة العتيقة على المبلغ الذي وهبته لك العائلة الكبيرة الحالمة بأن تكون القاضي والفقيه الذي تريد. بعدها همت على وجهك في بارات 'باب البحر' منتشيا بانتصارك الأول على مشاريعها الوهمية..
حسونة المصباحي
مبكّرًا، شرعت العائلة الكبيرة ترسم لك مستقبلك. 'لتكن مثل أعمامك أو لا تكون!' كان أفرادها يردّدون من حولك في الليل كما في النهار. وكان أعمامك قد اختاروا أن يكونوا قضاة وفقهاء سعيا منهم للحفاظ على مجد العائلة وعلى مكانتها الرفيعة بين قبائل الجنوب. أما أنت فكنت تعلم جيّدا من يوم كلمك معلمك الروحي وأنت لا زلت في بطن أمك، بأنك سوف تخون العائلة الكبيرة ذات يوم رافضا السير في نفس الطريق الذي سار فيه أعمامك، ذلك أن صيانة المجد القبلي القديم ليس أمرًا يعنيك...
وبما أنك كنت تعلم أن من يسعى على 'ليّ العصا' في يد القبيلة قبل الأوان يمكن أن تنكسر رقبته ويخسر الحاضر والمستقبل، فإنك كتمت سرّك في صدرك مثلما يفعل المؤمن الأبكم بإيمانه. وحدها كثبان الرمال في الصحراء التي كنت تتيه بينها بين وقت وآخر كانت تبارك عزمك لأن صداقتها للشعر والشعراء قديمة قدم الكون...
ثم جاءت الساعة التي ظللت تنتظرها طويلا. ساعة تحقيق ذاتك خارج سلطة القبيلة. وها أنت تركب الحافلة باتجاه العاصمة خافق القلب، مسكونا بوجل الشعراء حين يشرعون في كتابة القصيد الأول. ولم تكن رحلتك تلك أقل عذابا ولا أقل طولا من رحلة معلمك الروحي إذ أن حافلات الجنوب أكثر بطئا من الأحمرة المتقرّحة الظهور.
عند وصولك إلى هناك مطلع خريف ذابل هرعت على حيث تفتضّ بكارات الفتيان من أمثالك. وفي ليلة واحدة أجهزت بين أحضان غانيات المدينة العتيقة على المبلغ الذي وهبته لك العائلة الكبيرة الحالمة بأن تكون القاضي والفقيه الذي تريد. بعدها همت على وجهك في بارات 'باب البحر' منتشيا بانتصارك الأول على مشاريعها الوهمية..
حسونة المصباحي
التسميات
رسائل إلى أصدقاء بعيدين