إن التربية في المجتمعات البدائية -التي عاشت منذ خمسة أو ستة آلاف سنة، قبل اختراع الكتابة وقبل أن تصبح للتربية مدارسها ومؤسساتها الخاصة بها- تمتاز ببساطتها وبدائية وسائلها، مثلها في ذلك مثل الحياة العامة التي كانت تحياها تلك المجتمعات البدائية في فجر الحضارة الإنسانية.
وتلك المجتمعات وإن تباينت في كثير من الأمور فإنها تتشابه في كثير من المميزات العامة التي من شأنها أن تلقي ضوءا على طبيعة العملية التربوية وعلى أهدافها في تلك المجتمعات.
ومن بين تلك المميزات العامة نسبة الحياة إلى الجماد أثناء تفسيرهم للبيئة المحيطة بهم، فكان الرجل البدائي يعتقد أن وراء كل قوة مادية قوة أخرى غير مادية هي القوة الروحية.
ومن هذه المميزات أيضا بساطة الحياة البدائية وقلة مطالبها حيث أنها لا تعدو إشباع حاجات الجسم من طعام وشراب وكساء ومأوى، وإلا من ضد عالم الأرواح. ولما كانت عملية التربية في تلك المجتمعات لا تختلف عن عملية الحياة نفسها، فإن أهدافها هي الأخرى كانت نفس أهداف الحياة العامة.
ومن أبرز الأهداف العامة للتربية البدائية:
1- المحافظة على الخبرة الإنسانية والتقاليد السائدة.
2- تحقيق المطالب التي يتوقف عليها استمرار حياة الفرد وأمنه النفسي.
والتربية البدائية على هذا تتكون من عمليتين رئيسيتين، هما:
1- الإعداد اللازم للحصول على ضروريات الحياة من مأكل ومشرب وملبس ومأوى، ولتمكين الفرد من نفسه وممن يعتمدون عليه ومن بناء علاقات طيبة مع أفراد قبيلته.
2- تدريب الفرد على ضروب العبادة التي يستطيع بواسطتها أن يرضي عالم الأرواح وينير إرادته الطيبة وبذلك يحقق لنفسه الأمن والسلام.
وإذا كانت الناحية الأولى هي عماد التربية العملية لدى الرجل البدائي فإن الناحية الثانية هي عماد التربية النظرية عنده.
تلك هي طبيعة العملية التربوية في المجتمعات البدائية.
وهدف التربية في ضوء هذه الطبيعة-هو تحقيق التوافق والانسجام بين الفرد وبيئته المادية والروحية.
ولتحقيق هذا الهدف، كانت تعتمد على التلقين والتدريب العملي والتقليد اللاشعوري فمن خصائصها أنها كانت تتم بطريقة غير مقصودة، بمعنى أنها غير مقصودة، بمعنى أنها لا يتولى القيام بها معاهد ومؤسسات خاصة بها، بل يقوم بها المجتمع بأسره.
كما أن من خصائصها أيضا أنها تربية مباشرة تتم عن طريق الخبرة العملية والاشتراك النشيط للمتعلم أثناء تقليده لما يقوم به الكبار من نشاط، سواء في سبيل إشباع حاجاتهم الجسمية، أو في سبيل حاجاتهم الروحية.
ثم إن من خصائصها أيضا غلبة روح المحافظة عليها وسلبيتها حيث أنها كانت تسعى لاستمرار العرف السائد في الجماعة دون تغيير أو تعديل، وتحاول تشكيل الفرد بالثقافة المحيطة به تشكيلا ثابتا سلبيا وتؤدي به إلى أن يتشرب ويستبطن كل الأوضاع القائمة في مجتمعه دون أن يحاول تغييرها أو تعديلها ودون أن يكون له مجال للحرية والاختبار.
إذن أهم ما يميز التربية لدى الأقوام البدائية، أنها تهدف إلى أن يقلد الناشئ عادات مجتمعه وطراز حياته تقليدا عبوديا خاصا، فالطفل عندهم يتدرب على الأعمال التي تمارسها القبيلة كأعمال البيت، وصناعة الأدوات الضرورية، وحياكة الأقمشة، والصيد والحرب، وحمل السلاح، والرعي، والزراعة، فهي بهذا تعتبر تدريبا آليا تدريجيا على معتقدات الأسرة الاجتماعية وعاداتها وأعمالها.
غير أن تربية الجنس البشري لدى الأقوام البدائية احتلت مكان الصدارة فيها الخصائص الثلاث المتمثلة في الإله والطقوس واللغة، وأن الذي يمارس التربية كما لاحظ المربي الأمريكي ديوي المجتمع بأسره بصورة غير مباشرة تتمثل في عمليات التمثيل والرقص والتقليد التي يقوم بها الصغار محاكاة الكبار لغرض نقل حركاتهم وتصرفاتهم.
إلا أن هناك طقوسا تلي الولادة مباشرة، وهي مظاهر لدمج الوليد بزمرته التي ينتمي إليها، فالوليد يبقى في أيام حياته الأولى في حضن وكنف النساء وبالتالي فهو لا يندمج بالصورة المطلوبة في مجتمعه.
لذلك فإنه لا بد من وجود طقوس جديدة لتحقق له الاندماج، وهذه عادة ما تكون عند البلوغ، وهذه الطقوس تغير حياته وتعتبر ولادة جديدة بالنسبة له.
ويتم إعداد هذه الطقوس لفترة طويلة ومراقبة دقيقة يقوم بها شيوخ القبيلة، وهم الذين يتولون في نهاية الأمر الحفاظ على المعتقدات والطقوس التقليدية.
وهذه الطقوس تجعل الخاضعين لها يتلقون تجارب قاسية وأليمة، وكثيرا ما يتم إجبارهم وإكراههم على الخضوع والصمت والصوم، وكثيرا ما يطلب إليهم أن يتلقوا تعاليم تنقل إليهم تقاليد مرعبة مخيفة.
ويقول هامبلي أن هذه التجارب والمحن القاسية مفيدة جدا وضرورية لدى المجتمعات التي يتطلب تحصيل القوت فيها الكثير من العناد والإرادة الصلبة.
والتربية البدائية لا تميل للقسوة إلا فيما يتعلق بالطقوس.
والأقوام البدائية بالنسبة للتربية الجسدية يتركون لأولادهم الحرية حيث يركن هؤلاء الأولاد إلى الكثير من الألعاب الممتعة التي يتم فيها تقليد الكبار، حيث يتدربون عليها منذ نعومة أظفارهم، ففي المجتمعات المحاربة يسهمون في صنع السيوف والرماح والقسي وأدوات الحرب وآلاته، ويقلدون الكبار فيما يقومون به من معارك، أو ينصبونه من كمائن.
أما في المجتمعات المسالمة فهم يقلدون الكبار في النسيج وبناء الأكواخ وصنع الأواني والصيد والتجديف، وهم بهذا ينمون أفكارهم، ويشبع خيالهم حتى درجة الإبداع. وفيما يتعلق بالتربية الفكرية لدى الأقوام البدائية فهي تختلف تبعا لجنس الطفل ولطراز حياة القبيلة.
وتمتاز الأقوام البدائية بإدراكات حسية، فالسمع مرهب، والبصر حاد، والشم قوي، ينافس الكلاب، والخيال حاد يقظ، والذاكرة قوية.
أما عن التربية الخلقية والدينية فالأجداد والآباء يحرصون بشدة على نقل مبادئ السلوك السوي والتصرف السليم إلى أبنائهم، والأوامر عندهم تتصل بتقديس الأجداد واحترام الشيوخ والآباء والشرف.
التسميات
تاريخ التربية