رسائل إلى أصدقاء بعيدين.. إلى روت الذي يحضر في لوحاته أبو نواس والماركيز دي ساد وبودلير ونوفاليس الذي قال في البدء كل شيء كان جسدا واحدا

يخطر ببالي أحيانا وأنا أشرب كأس النبيذ الأحمر قُدّامها في بار 'أونسوفايتا' في شارع 'الأتراك' بميونيخ أن روت قد تكون أرنبا بريّا أفلح في الانفلات من رصاص الصيادين أكثر من مرة. ثعلبا أحمر يتقن فنّ إيقاع الآخرين في حبائل حيله. قمرًا بلون سنابل القمح في حقل فان كوخ يفاجئ مسافرا ضلّ طريقه في الصحراء. كنيسة صغيرة من الآجر البرتقالي على سفح جبل في سيناء يأوي إليها آخر الزّهّاد. حجرًا غريب الشكل ترسم عليه القوافل المرتحلة دائما وأبدا دلائل تهدي من يتعقّبها.
ويخطر ببالي أيضا أن تكون كلمة جميلة نسيها القديس أوغسطين عندما كان يكتب اعترافاته في نوميديا. جزيرة غطتها المياه بعد أن مرّ بها يوليسيس. حمامة زرقاء تنقل رسائل المحبين بين ضفتي المتوسط. قطة فرعونية في قصور ملوك الحبشة. غصن زيتون في يد محارب تعب من القتال. نحلة في ربيع غابات جبال الألب. جرّة نبيذ أندلسي في 'حي البازين' بغرناطة...
غير أن روت هي في الحقيقة شهرزاد جرمانية شقراء تجد في الرسم متعتها وسعادتها. ريشتها تبدو كما لو أنها من لهب لذا فإن اللون الأحمر هو الذي يطغى على جميع لوحاتها تقريبا. وهو لون الجسد في خلوته الايروتيكية، في هيجانه وشبقه وجنون نزواته عند احتدام الرغبة. في تحديه للمتلصصين والعاجزين عن مداعبته واستثارته. في انتهاكه للمحرمات والمقدسات. في تدفقه المحموم نحو اللذة القصوى. في ألعابه السرية الفاحشة. في ثورته على الذبول والموت وعلى أفلاطون الذي قال: 'من الجسد يأتي الشر، كل الشر!'.
في لوحاتها تنتصر روت للايروسية التي شوهتها بورنوغرافيا العصر الحديث، ودفنتها تحت ركام لافتاتها الاشهارية التي غزت كل الأماكن تقريبا، وأصبحت تحظى بحصة الأسد في برامج القنوات التلفزيونية التجارية، وتملأ الصحف والمجلات الرخيصة والمبتذلة. ومثل الشاعر الإنكليزي جون دون هي تريد أن تقول لنا: 'إن جسدي لي وحدي. لذا أستطيع أن افعل به ما أشاء لا ما يشاؤه الآخرون!'. ومثل د. هـ. لورانس، هي تجعل من الجسد بلسمًا ضد الألم، وملجأ للغريزة واللذة. ومثل أوسكار وايلد هي ترى أن الذي يريد أن يفرق بين الجسد والروح، لا يمكنه في النهاية أن يمتلك لا هذا ولا تلك. وإذا ما هي اختارت أن تواري البعض من لوحاتها وراء قضبان من حديد، فلأنها تريد أن تقول للغافلين: 'افتحوا عيونكم جيدا حتى تكتشفوا جسدكم!'.
في لوحات روت، يحضر أبو نواس. يحضر الماركيز دي ساد. يحضر بودلير. يحضر أيضا نوفاليس الذي قال: 'في البدء كل شيء كان جسدًا واحدًا!'.
حسونة المصباحي
6/1/2001

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال